د. طه جزاع
يقودك الطريق الصاعد بين الغابات الكثيفة إلى مرتفعات شاهقة تنقلك خلال ساعة واحدة إلى طقس آخر، وطبيعة جبليَّة خلَّابة، ثم تنتهي بك لتكون وسط الغيوم المطلّة على وديان سحيقة، ها أنتَ الآن وسط مرتفعات جنتنغ المطلّة على كوالالمبور العاصمة الاقتصاديّة والسياحيّة لماليزيا التي تركت عن طوع امتيازها كعاصمة سياسيّة وإداريّة، لمدينة بتروجايا الجديدة على مسافة لا تبعد عنها أكثر من نصف ساعة، وكفَّت الناس شر الازدحامات وعناء التنقل بين الوزارات في أماكن متباعدة، وجمعتها كلها هناك مع رئاستي الوزراء والبرلمان وتوابعهما.
قد يكون ذلك الطريق المُعبَّد الجميل شاقاً ومرهقاً، لذلك ما أن تقطع مسافة قصيرة منه حتى تجد محطة للترفلك تترك في مرأبها سيارتك، لتكمل الطريق عبر عرباته التي تقطع مسافة طويلة فوق الغابات والوديان حتى تصل بك إلى جنتنغ، وهي واحدة من أكبر مدن الملاهي في العالم.
وبإمكانك أن تترجّل في محطة واحدة منتصف الطريق تقودك إلى المعبد الصيني، وهو معبد بوذي في أجمل بقعة طبيعيَّة يمكن أن تراها العين، وقبل التطوير الذي حدث في السنوات الأخيرة لمسار التلفرك الطويل، كان السياح الراغبون بزيارة هذا المعبد مضطرين للوصول إليه بطريق السيارات فقط، لكنهم صاروا يترجّلون من التلفرك وحين ينتهون من زيارة المعبد يواصلون طريقهم نحو الأعالي، حيث "جنة " جنتنغ.
تؤمن أغلب الأديان والفلسفات الروحيَّة والاعتقادات والمِلَل والنِحَل، بوجود حياة أبديَّة، بعد هذه الحياة الفانية، وحتى تلك التي لا تهتم كثيراً بوجود حياة أخرى، فإنّها لا بدَّ أن يكون لها تصورها الخاص عن حياة ما بعد الموت، يرتبط عادة بالحياة الأخلاقية التي عاشها الإنسان خلال دنياه.
وفي المعبد الصيني يجسّدون ذلك عمليَّاً بالتماثيل والمنحوتات الملوّنة وهي تصور أبشع أنواع العذابات التي يمكن أن يتعرّض لها أصحاب الخطايا حين يُعرضون على عشر محاكم بعد مماتهم، تبدأ الأولى بجمع خطايا الميت لتقرر أنّه مذنب، ثمَّ يبدأ العذاب بسبب خطايا مثل عصيان الوالدين، والغش في الدواء، والسخرية من الفقراء وتملق الأغنياء، وقتل الإنسان والحيوانات البرية، والرشوة من قبل موظفي الدولة، والخيانة، والاعتداء على النساء، وبيع اللحم المغشوش، وعدم تقديس الأوطان، والكذب، قبل أن يقرر القاضي في المحكمة الأخيرة أن الميت مذنب ليستمر في العذاب، أو غير مذنب، ليلبسه جلد إنسان آخر وكأنّه يقول له عُد إلى بيتك ودنياك وتمتع بالحياة من جديد في شوارع كوالالمبور، أو هونغ كونغ، أو في مدينة الملاهي ماكاو شبيهة لاس فيغاس.
الاعتقادات الروحانيَّة كلّها تؤكد على الأخلاق الحسنة والأدب وحُسن المعاملة، وتنهى عن الفحشاء والمُنكَر والظلم والخيانة والغش والكذب، وكلها تمتلك تصوراً عن حياة أخرى، أبدية خالدة، أو فيها عودة ثانية للتسكّع في شوارع هونغ كونغ، أو صعود عربة التليفرك ومواصلة الطريق إلى جنتنغ!.