ميادة سفر
بينما يكثر الحديث عن الديمقراطية وأهميتها وضرورتها كحالة سياسية لابدّ منها لأية دولة، يغيب الحديث أو يكاد عن الاستبداد السياسي المقابل الأساسي للديمقراطية، التي تكاد هي الأخرى تغيب عن كثير من بلادنا العربية، وإن ضمنتها الدساتير، وأكدت عليها القوانين ونودي بها في ممارسات انتخابية مضمونة النتائج سلفاً، حتى في الدول العظمى التي تعتبر نفسها واحدة من أعرق الديمقراطيات في العالم «أميركا» على سبيل المثال
ما زال الحكم فيها ينتقل من حزب إلى آخر في تداول مفضوح ومشبوه للسلطة، بينما شهدت دولة مثل روسيا في العقود الأخيرة شكلاً آخر للديمقراطية وتداول السلطة إن صحت التسمية، من خلال التبادل في المناصب بين اثنين من القادة المنتمين إلى حزب واحد، فإن كان تلك الحال في بلاد كبرى وعريقة فقد يقول قائل إننا في بلادنا «نعيش بألف خير»، وهو كلام مردود على قائله طالما أننا لم نعرف من الديمقراطية إلا اسمها، ولا من تداول السلطة إلا الشعارات، وكل ما عرفناه كان استبداداً سياسياً أو اجتماعياً أو اقتصادياً أو حتى فكرياً.
انتشرت ظاهرة الاستبداد السياسي وتراكمت عبر عقود طويلة في كثير من الأنظمة السياسية في البلاد العربية، وإن جرت بعض المحاولات للقضاء عليها أو التحايل على الشكل الذي اعتاده الناس، إلا أنّ السيطرة على الحكم والاستفراد بالسلطة من قبل مجموعات محددة واستعماله وتوظيفه خدمة لمصالح فردية، ما زال قائماً حتى اليوم ومستمراً في غير بلد هنا وهناك في العالم، والاستبداد بما هو أحد ظواهر علم الاجتماع السياسي، فهو لا يولد بشكل مفاجئ، بل يتراكم من خلال مجموعة من العوامل السياسية والاجتماعية والاقتصادية والدينية، ويبدو أنّه وجد أرضاً خصبة في هذي البقة من العالم لذلك ما زال باقياً ويتمدد.
لم يعرف مفهوم «الاستبداد» في الفكر السياسي الغربي إلا بعد مجيء مونتسيكو الذي جعل الاستبداد أحد الأشكال الأساسية الثلاثة للحكم إلى جانب الحكومتين الجمهورية والملكية، واعتبره نظاما طبيعيا بالنسبة للشرق، لكنه خطر على الغرب كما جاء في كتاب «الطاغية» للدكتور إمام عبد الفتاح إمام، تلك الفكرة التي ستكون مثار جدل بين العديد من المفكرين الأوروبيين من فولتير الذي انتقدها بشدة، إلى هيجل الذي وصف حركة التاريخ بأنها مسار الروح من الشرق إلى الغرب، عبر حلقات تمثل درجاتٍ مختلفة من الوعي بالحرية، وغيرهم ممن جادلوا بما أسموه «الاستبداد الشرقي»، الذي ما زال قابلاً للنقاش حتى يومنا هذا، ليس فقط في البلاد العربية بل في كل دول الشرق حتى الصين إحدى أكبر الاقتصادات في العالم.
إن الحديث عن الاستبداد أو الطغيان حديث شائك مليء بالمواجع، لا سيما حين نجد عدداً من المفكرين يدين الشعب المستبد به ويحمّله مسؤولية الحكم الذي يتحكم به على مبدأ «كما تكونوا يولى عليكم»، وهو ما استرعى انتباه «أتين دي لابويسيه» في كتابه «مقالة في العبودية المختارة» حين بحث عن سبب انصياع أعداد كبيرة من الناس لفرد واحد وخضوعهم له، فالطاغية برأيه يستقوي بخنوع الجموع، يتلذذ بانقيادهم له، فيوظفهم كأشياء لا ذوات لها، مقولبة لخدمة خياله الشخصي المريض.
في كتابه «العقل الأخلاقي العربي» اعتبر المفكر المغربي محمد عابد الجابري أنّ: «مبدأ طاعة السلطان من طاعة الله، والدين والملك توأمان، هيمن هيمنة شبه مطلقة على الساحة الفكرية في الثقافة العربية، والذين لم يأخذوا هذا المبدأ على أنه يعبر عن حقيقة ما يقرره الدين، قبلوه كضرورة تدفع محظور الفتنة»، وما بين الضرورة الدينية ودرء الفتنة تغلغل الاستبداد في مفاصل الحياة السياسية، ويبدو أنّ هذا ما يفسر وفقاً للجابري غياب أية محاولة لممارسة الديمقراطية، وبالتالي استمرار الاستبداد السياسي في كثير من البلاد العربية بشكل أو بآخر، مستنداً إلى أساليب كثيرة من التحايل والكذب والتضليل والخداع، مستعيناً بالجزرة التي تقدم على شكل هبات ومنح، وعصاً من الترهيب تارة والترغيب تارة أخرى.