د. طه جزاع
"وجاء يوم الثلاثاء لسبع بقين من ذي القعدة، سنة تسع وثلاثمئة، فشهدت بغداد أكبر حشدٍ عرفه تاريخها. اجتمع هذا الحشد العظيم على ضفاف دجلة، راجف القلب، دامع العين، كظيم الغيظ، وتركزت نظراته على الحَلَّاج، الذي وقف في أغلاله وقيوده، مشرق الوجه، عاليَ الرأس، شامخًا جليلًا، وقد أحاطت به صفوف الجند، وطوقته زبانيَّة العذاب، وارتفعت إلى السماء قوائم خشبيَّة غليظةٌ جللت بالسواد، هي الآلة التي أُعدت لجلده وعذابه وصلبه"، يقول الياقوتي: سمعتُ الحَلَّاج عندما تقدم للصلب يقول: يا مُعين الفناء عَلَيَّ أعني على الفناء. ويقول القاضي الواسطي: لما جيء بالحَلاَّج ليُقتل، أخذ يتبختر في قيده، وهو ينشد:
طلبتُ المستقَر بكلِ أرضٍ فلمْ أرَ لي بأرضٍ مستقرًا
فنلتُ من الزمانِ ونالَ مني وكان مناله حلوًا ومرًّا
نادراً ما تتوفر عناصر الجودة والجمال في التحقيق والخط والتشكيل في كتابٍ واحد، مثلما توفرت لديوان الحَلَّاج الذي حققه كامل مصطفى الشَّيْبي، وصدرت طبعته الأولى عام 1974. ففي هذه الطبعة يحضرالحَلَّاجُ متصوفاً وشاعراً وشهيداً مُقَّطع الأوصال في كرخ بغداد، والشَّيْبي صانعاً ومصلحاً للديوان مثلما أحب أنْ يطلقَ على عمله هذا، والحاج يحيى سلّوم العبّاسي خطّاطاً، وشاكر حسن آل سعيد رساماً للبسملة والرسوم التفسيريَّة، وضياء العزّاوي رساماً للغلاف ورسومٍ أخرى في متن الكتاب، وصادق الدوري خطّاطاً لعنوانه.
يتضمن الديوان سيرة موجزة لأبي المغيث الحسين بن منصور بن محمى البيضاوي المولود في قرية الطور إلى الشمال من مدينة شيراز نحو سنة 857 م، وانتقال أسرته بحثاً عن الأمان بعد مقتل والده، وصولاً إلى مدينة تُستَر التي صحب فيها سهل بن عبد الله التُستَري أحد كبار الصوفيَّة في القرن الثالث الهجري. وتنقل الحَلَّاج بين شيوخ التصوف المعاصرين حتى وصل إلى بغداد ليأخذ عن الجنيد البغدادي الصوفيَّة، لكنَّ هذا لم يقبله قبولاً حسناً لثقة الحَلَّاج المفرطة بنفسه ومبالغته في ممارسة الرياضات النفسيَّة والجسديَّة. فقصد مكة حاجاً ليعود منها إلى الأهواز واعظاً. وإذ لم ينجح النجاح المطلوب، بات يتنقل في خراسان وفارس والعراق ليلقي عصا الترحال في بغداد. لكنه رحل عنها ثانية، بعد أنْ ترك أسرته فيها، حاجّاً ثانية، ولم يعد إليها مباشرة وإنّما قصد إلى الهند والصين في رحلة طويلة طوّر فيها أفكاره الصوفيَّة وراض نفسه على التصوّف الهندي، ثم عاد إلى بغداد ليستقر فيها ابتداءً من 903 م وله من العمر ست وأربعون سنة.
في بغداد صنف الحَلَّاج نحو خمسين كتاباً، لم يبق الزمان منها سوى"الطَّوَاسين"، الذي ألّفه أثناء سجنه قبل أنْ يقدم للمحاكمة ويُصلب وهو في الرابعة والستين من عمره.