ابراهيم العبادي
كيف ينظر العراقي إلى نفسه؟ وماهي صورة العراقي في عيون الاخرين؟ هذان سؤالان ضروريان لاطلاق حوار بين النخبة العراقية يكون موضوعه المركزي سلوك العراقيين المعبر عن هويتهم وثقافتهم وفولكلورهم التقليدي في داخل العراق وخارجه، ماهو الطبيعي والتلقائي والراسخ في هذا التعبير؟، وماهو الطارئ والدخيل والمبالغ به؟ ولماذا انتكست صورة العراقي وصارت قرينة الفوضى والعنف و التهديد الامني والسلوك غير المتحفظ؟ هل صحيح أن العراقي تأخر كثيرا وتراجعت حداثته
ولم يعد متحضرا كما كان؟ أم أن مقولة الحداثة ليست ذات قيمة معرفية ولاينبغي اتخاذها معيارا، فالعراقي يسلك ويتصرف وفقا لمنظومته الثقافية ما قبل الحداثية ولايهمه ما يقول وما يفهم عنه الآخر، ما دام هو منسجم مع تراثه وذائقته وما ينتجه لنفسه؟. جواب هذه الاسئلة يحيل حتما إلى مناقشة قضايا الثقافة والهوية والحضارة والتمدن والتغيير الاجتماعي، وكلها قضايا تتعدد فيها المداخل النظرية وتتسع فيها المجادلات تبعا لمناهج البحث واتجاهاته، كما قد تختلف زوايا النظر تبعا لقبليات الباحث ورؤاه ومنهجيته ومعاييره العلمية، بل والمدرسة التي ينتمي اليها، اذ تتعدد المدارس ايضا بين وظيفية وبنيوية وتفكيكية وتقليدية.
ليس هذا بيت القصيد فحسب، بل إن جوهر النقاش يحتاج إلى مدخل عملي يثير حفيظة الباحثين من مختلف المشارب، علنا نعثر على رؤية جمعية، وليس فردية، تسهم في رسم خارطة طريق لنقد الواقع وتجاوزه، وترسيم مسارات جديدة له تناسب حال العراق والمجتمع العراقي، وهو يخطو ويتعثر في مضمار البحث عن مكان في سلم الحضارة. بعد ان غادرته الحضارة لمدة لا تقل عن خمسين عاما!.
يشتد الجدال بين العراقيين في قراءتهم لواقعهم تبعا لثقافاتهم الاجتماعية، فنحن لا نتحدث عن ثقافة جمعية واحدة يصدر عنها سلوك جمعي موحد، بل ثقافات تحكي عن انتماءات مكانية وهويات فرعية وتعبيرات متعددة الاشكال، عن الذوق الجمالي والدستور الخلقي بتعبير مالك بن نبي، ثمة من يتحدث عن خلل في المركب الحضاري الذي يشتمل على الانسان والطبيعة والزمن والعلم والعمل (محمد الشبوط مثالا)، هذا الخلل جعل العراقي لايراكم منجزا حضاريا كشرط لنمو اقتصادي وثقافي وعلمي، ينتج سلوكا حديثا مواكبا للحداثة العالمية مع احتفاظه بخصوصياته الدينية والثقافية والهوياتية، يسجل الدكتور محمد المالكي المقيم في (بوسطن)، تساؤلات عن سبب الفوضى التي تضرب اطناب العراق، فوضى المشاعر والطقوس والأسواق والأحزان والاحتفالات والاعراس والتجمعات الرياضية والدعاية السياسية والانتخابات والتظاهرات.
هذه الفوضى صارت لصيقة العراقي إينما حل، تارة يحالفه الحظ فتكون فرصة نجاح له، واخرى تتحول إلى مناسبة للحزن وجلد الذات، أو للانكار وتعليق الاخطاء والممارسات على عاتق المتأمرين واصحاب النوايا الشريرة، الذين يخشون العراق ويضمرون له العداوة المبطنة، ويريدون له الدوران في حلقة التقهقر والفوضى والاضطراب والفشل.
يتحدث الدكتور منقذ داغر عن تصلب ثقافي -اجتماعي جعل العراقي يبرئ نفسه من الأخطاء الكارثية التي يكررها باستمرار ويحلو له تحميل الاخر مسؤولية ما يحصل له من تبعات، ليتخلص من عبء التفكير النقدي الضروري لاكتشاف العيوب وتصحيح المسارات.
الشيخ عدنان الدنبوس شيخ قبيلة كنانة انتقد بشدة في برنامج تلفازي ما نحن فيه من تأخر ثقافي وحضاري وتراجع في القيم إلى درجة انه قال اننا نعيش في العام 1924 وليس عام 2024، أي أننا تخلفنا مئة عام عن الآخرين، ما جعلنا لا ندرك العالم الذي يحيط بنا، كيف هي نظرته لنا؟ حساسياته منا ؟
اذ تحاذر كثير من الدول في استضافة العراقيين (جماعة) لا أفرادا، لأنهم سرعان مايعبرون عن انفسهم بلا تحفظ، سواء في عاداتهم وتقاليدهم وطقوسهم وأهازيجهم وشعاراتهم ومقدساتهم، مثلما حصل في الدوحة، التي استضافت منافسات كأس اسيا، اذ اختلف الناس يومها في سلوك الجمهور العراقي المشجع لفريقه، سواء في تعبيراته في سوق (واگف ) أو في وسائل التواصل الاجتماعي، ما جعل كاتبا واعلاميا مهما.
(محمد الكاظم) يصف ما حدث بأنه أبعد من خسارة المنتخب العراقي، بل خسارة الدبلوماسية الشعبية، التي تعد ركنًا من أركان الدبلوماسية العامة لتنمية العلاقات بين الشعوب وتوطيدها، وكسب ثقة واحترام الاخرين وتسويق الذات الوطنية لخدمة المصالح العامة.
نحن اذن في أزمة تحتاج إلى وقفة علمية وحوار هادئ ومناقشات أكاديمية جادة، توصل نتائجها إلى الجمهور العام والى صناع الثقافة والسياسات العامة، لا ينبغي أن تكون الشخصية العراقية محط ريبة ما لم تكن كذلك في سلوكها العام، خصوصا سلوكها السياسي أو الذي يرتبط بالسياسة الثقافية، وادارة الشأن العام، اصبحنا نتبرم ونضج من سلوكيات تفرض فرضا على الفضاء الاجتماعي، سلوكيات تنم عن عدم اكتراث عما سيفسره الاخر، ايا كان هذا السلوك، دينيا أم اجتماعيا أم طقسا ام عادات وتقاليد تستعاد من بيئات محدودة ومنغلقة، ثم يتم تعميمها لأن العقل الاجتماعي أو الذهنية العامة تؤمن به خرافيا وتعبر عنه لغويا أو ممارساتيا.
كتب باحث انثروبولوجي عراقي بحثا مهما عن (بنية العقلية العراقية)، فتحدث عن الانماط العقلية -الثقافية التي تؤبد التلكؤ الثقافي في الحياة اليومية، فوجد ملامح هذا التلكؤ في :التناقض الانفعالي - الوجداني في المواقف العقلية للفرد العراقي، استنادا إلى فرويد، وفي القفز على المواقف العقلية أو الترحال الثقافي بحسب محمد عابد الجابري، وفي الانطباعية وشخصنة المواقف والأشياء والظواهر، التي تقود إلى انتفاء الموضوعية وتراجع التفكير العلمي، اعتمادا على نظرية بياجيه في تفسيره لنمو عقلية الطفل، وفي التصلب في الرأي واعتراض التجديد والابداع، وفي تراجع التمايز الفردي وانتشار القطيعية، وفي القدرية والتفكير الخرافي، وفي مسايرة التقاليد والعادات والاذعان للسلطة القوية، وفي تبديد الوقت والكسل والتسويف، وبالالتصاق بالماضي وعدم التفكير بالمستقبل، وفي تجاهل القوانين التي تحكم التاريخ، وفي الميل إلى اخفاء الحقائق بدل اكتشافها، وفي التشاؤمية والحزن، وفي الاتجاه السلبي نحو المرأة. (د.علاء جواد كاظم، 2016، دار الشؤون الثقافية العامة).
إن هذه التعبيرات التي تتبدى يوميا لها جذورها في تكوين الشخصية العراقية، وهي شخصية خضعت للنقد منذ أمد بعيد منذ صدور (طبيعة المجتمع العراقي) إلى آخر الدراسات النقدية الراهنة، رغم ذلك لا تجد أصداء لهذا النقد الثقافي والسوسيو - سيكولوجي داخل النسق الاجتماعي، كأنما هناك ممانعة نفسية واجتماعية تحول بين النقد والقراءات وبين التمثل والاستجابة والتغيير. وهذا ما يحتاج إلى عودة للبحث في أسبابه.