ثامر عباس
ليس ثمة إنسان، في الوقت الحاضر، يجهل أسباب هيمنة بلدان العالم الغربي على بلدان العالم الشرقي، كما ليس ثمة ما يعتم عليه رؤية العوامل الحقيقة، التي بوأت الحضارة الغربية مكان الصدارة في مضامير التنافس البارد والتصارع الساخن بين حضارة الأول وحضارة الثاني. ولكن، مع ذلك، قلما يحسّ هذا الإنسان بوطأة تلك الوقائع والمعطيات لكي يضعها نصب عينيه حين تداهمه الأحداث وتعصف به الوقائع، ويضطر، من ثم، للانغمار في أتون البحث الحلول واستنباط المعالجات.
وعليه، قد يتساءل الإنسان العربي عن سرّ استمرار تفوق العالم الغربي على نظيره العالم الشرقي، ليس فقط في المجالات السياسية والعسكرية والاقتصادية فحسب، بل وكذلك في الميادين الاجتماعية والثقافية والحضارية والعلمية، حتى بعد أن ظفر هذا الأخير بكل ما كان يعتقد أنها مقومات (الاستقلال) السياسي وبناء دوله (الوطنية). بالرغم من مرور عشرات العقود من السنين على لحظات (فك الارتباط) ما بين القوى الاستعمارية التي كانت تهيمن على معظم مجتمعات بلدان هذا العالم من جهة، وبين قوى ما يسمى بالأحزاب والحركات المحلية التي كانت تسوق نفسها (كمنقذ) وحيد و(ممثل) وطني بلا منافس من جهة أخرى. هذا في حين استمرت مؤشرات هذه المجتمعات بالتدني في مضامير البناء والتردي في ميادين الإنتاج، كما لو أنها تستعيد مجددا سيرة كينونتها الأولى يوم كانت تعيش حياة التوحش الاجتماعي والتبربر الحضاري.
ولكي لا نذهب بعيدا، فإن ما يعطي لدول الغرب ميزة تفاضلية على دول الشرق هي المحافظة على استدامة متلازمة (الإرادة) و(القوة)، ليس فقط على مستوى التحكم باتجاهات العلاقات الدولية فحسب، وإنما على صعيد افتعال وإدارة الأزمات الإقليمية والدولية، بحيث لا تسمح بتاتا بانفراط عقد طرفي هذه المتلازمة مهما كانت الأسباب، أو مهما استجد من ظروف. وهنا نسارع إلى القول؛ إن التأكيد على تلازم هذه الثنائية من قبل دول العالم الغربي، لا يعني أنها معدومة كليا لدى نظيرها دول العالم الشرقي كما قد يتبادر إلى أذهاننا، إنما الفارق يكمن بالنسبة للأولى في الإبقاء على مستوى عال من الترابط العضوي بين طرفي تلك المتلازمة بما يجعلها في حالة من التفاعل الدائم والفاعلية المستمرة، دون السماح لأي طارئ بتعطيل ديناميتها وتنافر عناصرها. أما الفارق بالنسبة للثانية فيتحدد باستحالة قدرتها على الجمع بين طرفي تلك المتلازمة، أي بمعنى أنها قد تمتلك في فترة من الفترات (الإرادة) دون حيازة (القوة) أو بالعكس، باستثناء حالات نادرة لا يعتد بها كونها ذات طبيعة (طارئة) سرعان ما تفقد أحد القطبين.
أولا- إما لأسباب ذاتية تتعلق بتورط الدولة (= السلطة) المعنية بانتهاج سياسات خاطئة وتعسفية، بحيث تستهلك طاقاتها وتستنزف قدراتها في مواجهات عبثية ضد معارضيها سياسيا وإيديولوجيا من جهة، وتفقد، من جهة أخرى، كل ما بحوزتها من أرصدة وطنية سابقة وشرعية مكتسبة يصعب - ان لم يستحيل – تعويضها في الأمدين القصير والمتوسط.
وثانيا- وإما لأسباب موضوعية ترتبط بانخراط ذات الدول في تكتلات إقليمية وصراعات دولية لا ناقة لها فيها ولا جمل، وإنما لمجرد التعبير عن التزاماتها الدبلوماسية إزاء شركائها أو حلفائها ممن يتعذر عليها التنصل من املاءاتهم وشروطهم. من هنا، لا تلبث أن تسرّع عمليات استهلاك إمكاناتها الاقتصادية وقدراتها العسكرية وشرعيتها السيادية، وبالتالي تفقد في كلا الحالتين أحد تينك العنصرين من عناصر المتلازمة المذكورة.
وهكذا نلاحظ على مدى عقود القرنين التاسع عشر والعشرين – يبدو ان المؤشرات ذاتها في القرن الحادي والعشرين -ان مسار متلازمة (الإرادة) و(القوة) وما يستتبعه من رجحان كفة الدول المستعمرة (بالكسر) على الدول المستعمرة (بالفتح)، لم – ولن – ينحرف عن الاتجاه الذي اختطه لنفسه من الغرب إلى الشرق، طالما استمرت هذه الأخيرة عاجزة عن حيازة أحد قطبي تلك المتلازمة، ناهيك عن إمكانية الجمع بينهما بحيث يبقى العالم الأول يضع الخطط ويصدر يأمر، ويستمر العالم الثاني بإظهار الطاعة والإذعان لينفذ مضامينها مهما كانت الخسارات والانكسارات !.