الحقيقة والوهم

آراء 2024/02/19
...










 طالب سعدون

وقعَ بنيامين نتنياهو في وهمٍ كبيرٍ عندما بالغ بقدرته على تحقيق ما يريد في حربه على غزة، وتصور أنَّه في مأمنٍ من المقاومة من خلال المستوطنات التي زرعها حول غزة لتكون (حائط صد) لكيانه وتتيح له الفرصة لينقل الحرب على هواه الى غزة، ويبدو من سلوكه الذي يخالف عصر التكنولوجيا والابتكارات التي أتاحت للخصمين أنْ يديرا حربهما عن بعدٍ وليس على الأرض فقط.
ويبدو أنَّ نتنياهو لم يستوعب هذه الحقيقة الى الآن وقد اكتشفها قبله إسحق رابين بعد تجربة انتهت باغتياله عندما قال (إنَّ الأرض لم تعد توفر الأمان لهم) حتى وإنْ أخذوا فلسطين كلها فذهب الى توقيع اتفاق أوسلو مع ياسر عرفات عام 1993، وكان نتنياهو من ضمن صف اليمين الذين اعترضوا على مبادئ الاتفاق وقام بإجراءات على الأرض منذ ولايته الأولى عام 1996 والى الآن تؤكد جميعها الغرور، فأخذ يقتطع من أرض فلسطين ما شاء له حلمه بإقامة دولة اليهود التي رسمَ حدودها الصهاينة فرفض قيام الدولة الفلسطينيَّة من خلال فكرة حل الدولتين التي عادت من جديد لتصبح مطلباً عالمياً بعد السابع من أيلول الماضي وصمود الشعب الفلسطيني في غزة البطلة.
لم يكتف نتنياهو على مدى ولاياته بما قام به من خطوات خلاف اتفاق أوسلو ومنها تكريس الاحتلال للأرض الفلسطينيَّة، بل سار هو والحكومات المتعاقبة وفق المخطط الصهيوني لإقامة الدولة اليهوديَّة وذلك بالتوسع في المستوطنات لتكون خطاً أول في الدفاع، علَّها تؤمن الحماية لكيانه وهذا ما أعلنه في أول لقاءٍ له مع عرفات وصرح به علناً وبإصرارٍ ووضوحٍ كاملين في الليكود بأنَّه لن تكون هناك دولة فلسطينيَّة بين البحر المتوسط ونهر الأردن، لكنَّ غزة هذه المرة حطمت هذا المخطط وأجهضت حلم إقامة الدولة اليهوديَّة، فالمستوطنات بعد السابع من أيلول لم تعد كما كانت سابقاً، لم تؤمّن الأمان لإسرائيل، بل لم تؤمّن الأمان لنفسها بعد أنْ أفرغت من سكانها ولم تستطع الحكومة إقناعهم بالعودة إليها، مجتمعات في محيط غزة تفككت بأكملها وتمَّ إحراق البِنْية التحتيَّة وتقدر الأضرار فيها بنحو 5.5 مليارات دولار على حد تقدير صحيفة يديعوت احرونوت، بينما بلغ عدد المستوطنين الذين تمَّ جلاؤهم من الشمال والجنوب بنحو 125 ألف شخصٍ وتكلفُ العناية بهم المليارات، وبذلك لم تعد المستوطنات جاذبة إليها بعد أنْ أصبحت طاردة لمن سبقهم في الهجرة إليها.
فهم لم يتعودوا النزوح كما هم الفلسطينيون لكنْ بعد السابع من أيلول تغيرت هذه (القاعدة) إذا جاز التعبير فهاجر ونزح الآلاف ولم تعد دعاوى الأمن المزعوم تنطلي على اليهود للهجرة الى فلسطين ويتحسب الباقون للهجرة في أي لحظة ما داموا يملكون جوازات دولهم التي كانوا فيها، فلا يمكن لإنسانٍ طبيعي قادم من أوروبا مثلاً أنْ يعيشَ حياة مرفهة في مثل هذه الأجواء ولا للسياحة أنْ تنتعشَ على حد قول خبير عسكري وبذلك أسقطت غزة كذبة (الأمن والأمان) التي كانت إسرائيل تستخدمها في دعواتها لليهود للهجرة إليها.
لقد تغيرت قواعد الحرب وتطورت معداتها وتوسعت ساحاتها، فقد انتهى عصر الأسلحة التقليديَّة وحلت محلها أسلحة أخرى قللت - إنْ لم نقل ألغت - الفوارق الكبيرة بين الدول وربما ستفقد الدول الكبرى والعظمى ميزة احتكار السلاح والتحكم به ليساعدها في فرض سياساتها على الآخرين من خلال احتكار صناعة السلاح، على سبيل المثال أصبحت الطائرة المسيرة من الأسلحة المهمَّة في المعارك بعد أنْ كانت من الألعاب المسلية، تحمل قنابل وصواريخ وربما تتطور أكثر لتحمل أسلحة نوويَّة وقد تصبح أحد مصادر القوة والمال لدولٍ صغرى وحتى أفرادٍ وشركات صغيرة وستكون من العوامل الأساسيَّة لتغيير موازين القوى بين الدول.
بعد السابع من أكتوبر لم تعد الأرض الفلسطينيَّة وحدها ساحة الحرب تتلقى الهجمات الإسرائيليَّة بعد أنْ تحولت الى داخل الكيان أيضاً، ولذلك فإنَّ رهان نتنياهو على إطالة أمد الحرب فاشل، وسقطت نظريَّة الأمن والأمان التي تزعمها الصهيونيَّة وادعاء الاستقرار والرفاهيَّة لتشجيع الهجرة الى (إسرائيل) وظهرت حقيقة الجيش وهو ليس بتلك الهالة والأسطورة التي رسموها له وضعف استخباراته وأعداد الخسائر من القتلى والجرحى وفقدان حالة الأمن والاستقرار وظهرت قوة الفلسطينيين وقدرتهم على إنزال الخسائر الكبيرة.
وهي كلها عوامل خلقت حالة من التشاؤم والإحباط وتشجع على الهجرة التي أصبحت لافتة للنظر في السنوات الأخيرة وتعرف باسم (يورديم) وهو مصطلحٌ عبريٌ يستخدم لوصف اليهود الذين يغادرون (إسرائيل).
وهي ظاهرة واضحة وليست خافية على نتنياهو وستكون واحدة من العوامل الأساسيَّة في تآكل (إسرائيل) على حد رأي أحد الباحثين، وهي أحد نجاحات السابع من اكتوبر التي كشفت أسباب ضعف (إسرائيل) ومستقبلها وعلاقة الحكومة مع الإسرائيليين وأعداد المهاجرين.