زهير كاظم عبود
ليس فقط بريطانيا من تمارس الاضطهاد والتعسف بحق الصحفي المذكور، إنما يمتدُّ الأمرُ الى جميع الحكومات التي تتملقُ أو تحاول أنْ تلتحقَ بالذيل الأميركي من الحكومات الغربيَّة أو العربيَّة، وتمَّ تحويل أفعال الصحفي المذكور من ممارسة العمل الصحفي الاستقصائي الى فعل التجسس، وهو ما تقدمُ عليه أغلب الحكومات حين تجد أنَّ الصحافة الاستقصائيَّة كشفت خللاً أو فساداً أو تعرضت بالإشارة الى تصرفٍ خاطئ أو فاسدٍ لمسؤول تلجأ الى اتخاذ مواقف تتناقضُ مع حريَّة الكلمة والتعبير والرأي
أكد الدستور العراقي في المادة (38) منه كفالة الدولة بما لا يخل بالنظام العام والآداب على حريَّة التعبير عن الرأي (بكل الوسائل)، وعلى حريَّة الصحافة والطباعة والإعلان والإعلام والنشر، وعلى حريَّة الاجتماع والتظاهر السلمي الذي يتمُّ تنظيمه
بقانون.
ومثل هذه الحريَّة لا يمكن لها أنْ تتمَّ ممارستها ما لم تمهد لها ثقافة مجتمعيَّة تلتزمُ بها السلطة التنفيذيَّة، ويؤمن بها المجتمع كلياً، حتى يمكن أنْ تتوفر أرضيَّة تتمُّ ممارسة هذه الحريات عليها، وأنْ نبدأ بممارساتٍ عقليَّة ورياضيَّة لتقبل النقد وتشخيص وجهات النظر وإنْ كانت تخالف وجهات نظرنا، وإلا سنبقى أسارى للعقليات القديمة التي قيدت مجتمعنا واستولت على ثقافة وعقليَّة المسؤول الحكومي من أنَّ مركزه الوظيفي والسياسي يوفران له حصانة تتفوق في أحيانٍ كثيرة على
القوانين.
الممارسات التي قام بها مؤسسُ موقع (ويكيليكس) المواطن الأسترالي جوليان أسانج بنشره جرائم الحرب التي ارتكبتها القوات الأميركيَّة في العراق وأفغانستان بشكلٍ متعمدٍ ومكشوفٍ، وقفت بوجهها العديد من الحكومات التي تخضع لسياسة الولايات المتحدة الأميركيَّة، ولهذا بادرت حكومة بريطانيا خلافاً لدستورها وتقاليدها في احترام الحريات التي تتشدّقُ بها الي اعتقاله وإحالته على المحكمة، إذ ستتم محاكمته خلال هذا الشهر، وعلى أساس قيامه بنشر وثائق سريَّة تمكن من الوصول إليها ونشرها للراي العام، ما أحرج الولايات المتحدة الأميركيَّة وأزعج الحكومة البريطانيَّة، فإنَّه سيتعرض للحكم، وأيضاً سيتعرض لتسليمه الى الولايات المتحدة الأميركيَّة التي فضحها ونشر الوثائق التي تدينها، وبذلك فإنَّه سيواجه خطر الإدانة بقوانين التجسس المعمول بها في الولايات المتحدة والتي تحكم عليه بمدة لا تقل عن 175 سنة، وبعدِّه قام باختراق أجهزة الكومبيوتر السريَّة الدفاعيَّة، ولم يزل الصحفي المذكور معزولاً في سجنٍ بلندن يعدُّ من بين أخطر السجون بناءً على الأوامر الأميركيَّة التي تلحُّ على المطالبة به، وبالرغم من معاناته من مرضٍ خطيرٍ ومعاملته البعيدة جداً عن الممارسات الإنسانيَّة التي يتعرض لها، فضلاً عن الاضطهاد المستمر له بسبب ممارسته الحريَّة الصحفيَّة التي يعتقد الناس أنَّ تلك الحكومات توفرها فعلاً وممارسة ونصاً، في حين أنَّ ما يكتب على الورق أو يتمُّ التبجح به يختلفُ عن الحقيقة التي نعيشها.
وبدلاً من المطالبة بإخلاء سبيله وعدم اعتبار ما قام به من الأفعال الإجراميَّة، إذ كشف وبالأدلة والمستندات والقرائن جرائمَ إنسانيَّة بحق البشريَّة سيفضحها التاريخ البشري ولو بعد حين، فإنَّ حكومات حليفة للولايات المتحدة تتعاون من أجل ترحيله إليها لتضييق الخناق عليه والانتقام منه شخصياً بعد أنْ عجزت عن تغطية الوثائق التي تمَّ نشرها أو
تفنيدها.
ليس فقط بريطانيا من تمارس الاضطهاد والتعسف بحق الصحفي المذكور، إنما يمتدُّ الأمرُ الى جميع الحكومات التي تتملقُ أو تحاول أنْ تلتحقَ بالذيل الأميركي من الحكومات الغربيَّة أو العربيَّة، وتمَّ تحويل أفعال الصحفي المذكور من ممارسة العمل الصحفي الاستقصائي الى فعل التجسس، وهو ما تقدمُ عليه أغلب الحكومات حين تجد أنَّ الصحافة الاستقصائيَّة كشفت خللاً أو فساداً أو تعرضت بالإشارة الى تصرفٍ خاطئ أو فاسدٍ لمسؤول تلجأ الى اتخاذ مواقف تتناقضُ مع حريَّة الكلمة والتعبير والرأي، وبهذا تكشف عن عدم إيمانها حتى بنصوص الدستور الملزمة.
إنَّ حريَّة الصحافة تعدُّ الأساس الذي يعبر عن الرأي والرأي الآخر، وتعدُّ جميع وسائل الإعلام التي يتيحها لنا العصر الحالي تحت حماية الدولة التي يستوجب عليها أنْ تلتزمَ بكل ما وردَ بالنصّ الدستوري والقانوني، وبما يحترم كلمة ورأي الصحفي أو الكاتب في حال عدم مخالفته للنظام العام والآداب، وهي قاعدة تلتزمُ بها الحكومة بجميع سلطاتها من أجل أنْ نؤمنَ حقاً بأنَّ لكل إنسان حريَّة العقيدة والفكر والضمير، وأنَّ الصحفي ضمن هذا الإيمان يعرضُ لنا وجهة نظره بالحقيقة، وبالتالي فإنَّ احترام وجهة نظره والمحافظة على حياته ودراسة ما تقدم به من وجهة نظر من أولويات الحريَّة التي أشار إليها الدستور.
ولهذا فإنَّ نشر المخالفات والإخفاقات ووسائل الالتفاف على القوانين والتعارض مع صور الفساد تعدُّ مساهمة إيجابيَّة وصحيَّة، ومساهمة فعالة لتشخيص الخلل وأوجه الفساد التي علينا جميعاً التكاتف والتعاون للقضاء عليها، وعلى السلطة التنفيذيَّة في العراق الجديد وهو يتمسكُ بالتدريب على ممارسة الخطوات الديمقراطيَّة والدستوريَّة أنْ تبرهنَ على تقديرها للصحافة عالياً بوصفها صوتاً نحتاجُ إليه دوماً وكلمة نحتاج أنْ نطالعها وأنْ نحرصَ على الدفاع عن حريَّة الكلمة.