خديعة أطروحة تصادم الحضارات

آراء 2024/02/21
...

 أ.د عامر حسن فياض

 بيد ان هذه الاطروحة وبمجرد نشرها واجهت الكثير من الانتقادات، وسجلت عليها الكثير من المآخذ، فالحروب الحقيقية وليس الخيالية، جرت عادة في داخل الكتلة الحضارية الواحدة وليس بين كتلتين حضارتين متصارعتين، والمسلمون لم يهرعوا لنجدة العراق ولا البوسنة ولا اذربيجان.
نشر المفكر الامريكي واستاذ علم السياسة ومدير معهد الدراسات الستراتيجية في جامعة هارفارد (صموئيل هنتنغتون 1927 - 2008م) في صيف عام 1993م، دراسة في مجلة (الشؤون الخارجية) تضمنت شكلا معدلا لمقولة (تهديد الجنوب للشمال) أو (التهديد الاسلامي للغرب) التي كانت بدورها وفي وقتها شكلا معدلا للمقولة التقليدية الأسبق عن انقسام العالم إلى (شرق – غرب) و( شمال – جنوب). وأعلن هنتنغتون في هذه الدراسة أن الصراعات الحضارية هي خليفة الحرب الباردة، ولكنها ستكون آخر مراحل تطور الصراعات في العالم المعاصر.
وبقدر ما تبدو اطروحة هنتغتون لامعة وبراقة، فهي ليست أقل خداعاً من غيرها، لانها ليست سوى النسخة الثقافية لإطروحة (تهديد الجنوب للشمال)، فالاختلافات بين الحضارات ظاهرة طبيعية، وهي تدخل في دائرة الاختلاف لا الخلاف والتقاتل، وهي ثمرة قرون من التاريخ، ولن تختفي في الوقت القريب. والتحليل الذي ينحاز لأفكار هنتغتون بهذا الشأن، يتماشى مع الاهداف الاستراتيجية للغرب بقيادة الولايات المتحدة الامريكية بعد نهاية الحرب الباردة، تلك الاهداف الرامية لبقاء الاخيرة على رأس (العالم الغربي الحر)، وتوسيعه تحت هيمنتها ليمتد إلى أوروبا الشرقية وامريكا اللاتينيةن مع الحرص على منع ظهور أية قوة معارضة في اسيا أو الشرق الاوسط. وتمتاز هذه الاطروحة بأنها تقدم للبعض قراءة موحدة لجميع الصراعات الجارية في عالمنا المعاصر، وخصوصاً لأولئك الذين فقدوا البوصلة التي كانت تقدمها لهم الحرب الباردة والاختلافات العقائدية والايديولوجية، وتمثل هذه الاطروحة بالنسبة لهم (النعمة المفاجئة)، التي زودتهم من جديد بـ (نظرية) شاملة يستطيعون أن يفسروا بها الصراعات والحروب الاهلية في دول أوروبا القديمة المتعددة الجنسيات وفي الشرق الاوسط وبحر الصين.
 بيد ان هذه الاطروحة وبمجرد نشرها واجهت الكثير من الانتقادات، وسجلت عليها الكثير من المآخذ، فالحروب الحقيقية وليس الخيالية، جرت عادة في داخل الكتلة الحضارية الواحدة وليس بين كتلتين حضارتين متصارعتين، والمسلمون لم يهرعوا لنجدة العراق ولا البوسنة ولا اذربيجان. أما اعتبار مبيعات السلاح الصيني للسعودية أو ايران علامة على وجود ترابط كونفوشيوسي – اسلامي، فهذا أمر لا يمكن إثبات صحته امام التجربة والواقع، فهل يمكن الحديث مثلاً عن ترابط غربي – اسلامي لأنّ الولايات المتحدة الامريكية وأوروبا يبيعان السلاح إلى بلدان اسلامية في الشرق الاوسط ؟ بالطبع لا، فبيع هذه الاسلحة وفي جميع الاحوال ليس إلا من أجل المحافظة على صناعة اسلحة جديدة تسمح للمنتجين باستمرار الحصول على العملات الصعبة، وعليه فإن الاسباب هي، في الحقيقة، اقتصادية (صناعية – تجارية – مالية) واستراتيجية (عسكرية – سياسية)، فالمبيعات لم تكن باسم النضال الحضاري، لانه لو صح ذلك لكان تقديم الاسلحة يتم بطريقة مجانية أو رمزية، وهو أمر ابعد مايكون عليه الحال اليوم. واذا كان الصرب والكروات لا يدينون بنفس الدين، فهل يمكن القول بانهم لاينتمون إلى نفس الحضارة، فهم سلاف ولهم نفس اللغة وعاشوا في القرى نفسها زمناً طويلاً وتعددت بينهم الزيجات.
ولكن الحروب الاهلية والدولية في داخل الحضارة الواحدة، واقتتال الاشقاء داخل الدين الواحد وحتى المذهب الواحد، وقائع تنسف تحليل هنتغتون من اساسه، وبخصوص الاسلام فإنه يقوم على كتل ثقافية فرعية متنوعة وربما مختلفة، كذلك فإن العالم الكونفوشيوسي ليس موجودا بالكيفية التي يجري تصويره بها أي كتلة واحدة. كما يمكن دحض الجانب المتعلق من هذه الاطروحة بالحضارة الافريقية بدلالة الحروب الاهلية المشتعلة فيها والتي تجعل من الاثنية/ العرقية العنصر المكون لإفريقيا والاكبر من اي تضامن حضاري. وكذلك الامر بالنسبة لأمريكا اللاتينية، حيث هشاشة ووهن التضامن الحضاري اللاتيني الامريكي، فقط المشاعر المعادية للولايات المتحدة الامريكية كانت هي الشيء الوحيد، الذي استطاع ان يوحد الشعوب في هذه القارة في عقدي الستينيات والسبعينيات، بل إن هذا الطلاء البراق لم يستطع في وقته إخفاء التنافس على قيادة القارة بين البرازيل والارجنتين ولا الحرب الاهلية في البيرو وكولومبيا ولا الخلافات الحدودية بين الارجنتين وتشيلي، وبين بوليفيا وتشيلي وبين البيرو والاكوادور. وتتميز أطروحة هنتغتون بطبيعتها الجازمة والقاطعة، حيث تفترض بأن الحضارات ستتصادم حتما وبالضرورة، وأن هذا التصادم لن تكون له نهاية، بينما على العكس من ذلك يمكننا ان نتصور بأنه حتى الحرب التي قد تقوم بين حضارتين بسبب اختلافهما، فإنها يمكن أن تتوقف في أية لحظة، عندما تقرران وقفها من أجل مصالحهما المشتركة.
وفي الجانب المقابل لهذه الأطروحة تبرر حقائق الجغرافيا السياسية المعاصرة اليوم مفهوم صراع الهويات المستند لا على بناءات نظرية، بل على ملاحظة الصراعات الحقيقية التي تستخلص منها النتائج العامة، حيث تصبح الهوية الجماعية لجماعة بشرية، ما هي الشيء الثابت الوحيد في مواجهة إفرازات الحداثة المدمرة والبؤس الاقتصادي والتفكك السياسي. فإذا احست جماعة بشرية ما بأن هويتها مهددة بشكل قد يؤدي إلى زوالها، فستتكون هنا قاعدة صراع الهويات، التي يستند في أغلب الأحيان إلى الخوف من الزوال. فولادة صراع الهويات، تصاحبها أفكار وأوهام يملؤها القلق والخوف من التصفية، لأن الأفراد لا يشعرون بأنهم مهددون بفقدان الارض فقط، بل ومهددون ايضا بفقدان حقهم في العيش كجماعة لها خصوصيتها. إن صراع الهويات ليس صراعا متعلقا بأرض أو سلطة أو مصادر ثروة، بل هو أولا وقبل كل شيء صراعٌ مضمونه ومصدره الادراك الجماعي لتهديد يطال الوجود، ويهدد استمرار الحياة، إنها مشاعر الضحية، التي تسيطر على طريقة التفكير والتحليل الجمعي لدى جماعة بشرية تحسُّ بأنها ضحية، وهذا ما تتأسس عليه خصوصية أزمة الهويات، سواء كانت طائفية أو عرقية أو قومية أو خليطاً من الازمات الثلاث معاً، وعليه فإن أمام الحضارات طريقا مفتوحا، هو طريق الحوار وليس الصراع ولا التصادم.