لقد كان في قصصهم عبرة

آراء 2024/02/22
...

 رعد أطياف

لو أردنا أن نعرّف الشخص المستبد بتعريف يقارب وضعنا التاريخي، فعلى الأرجح سيكون التعريف التالي وافياً إلى حد ما: إنه الكائن الذي لا يقيم وزناً لعواقب أفعاله، ولا يأخذ العبرة من أحداث التاريخ مهما كانت قريبة. ذلك أن كل المبادئ المثالية التي يتحذلق بها المستبدون بمختلف توجهاتهم تسقط أمام شهوة السلطة وجاذبيتها المغرية.

بينما وجد الآخرون الترياق المضاد لهذا المرض المستفحل، من خلال نظام سياسي ديمقراطي ومؤسساتي يكبح الاستبداد ويضع حداً للاجتهادات الفردية، وجد المستبدون ترياقاً مضاداً لكل هذا: المزيد من تضخيم السلطة على حساب الدولة حتى لو احترقت البلاد بمن فيها.

في تاريخنا القريب، الذي تعدّى العقدين، تبقى صورة صدام حسين شاخصة، ونموذجا مهما للغاية بوصفه عبرة تاريخية قريبة جداً لأجيال عاصروه واذاقوا مرارة قسوته الخالية من أي رحمة. بيد أن الاعتبار بصدام بوصفه مستبداً لا يكفي، إذ لطالما كان تاريخنا السياسي الحديث هو تاريخ التكالب على السلطة على حساب العمل المؤسسي المنظم. فصدام حسين، من هذه الناحية تحديداً، لم يكن استثناءً، أي لم يكن حالة فريدة في منطقتنا العربية.

يمكننا أن نبرر لصدام حسين عقدته المرضية تجاه السلطة، ونمضي دون أن نعتبر أنفسنا قد بالغنا في هذا التبرير، ذلك أن عموم النخب العربية الحاكمة تشترك في هذه الحالة المرضية. من يمكنه أن يتجاوز سحر السلطة الذي لا يُقاوَم، أليس الديمقراطية مصممة لكي لا يقع السياسيون في شراك حب السلطة، ومن ثمّة مصممة أيضاً كوقاية من الاستبداد؟. 

وعلى الرغم من أن الاستبداد نقطة مشتركة تهوي إليها قلوب الرجال، مثلما وصفها علي ابن أبي طالب أبلغ توصيف حين قال»الولايات مضامير الرجال»، وعلى الرغم أن صدام حسين مضى إلى درجة من الاستبداد بحيث ابتلعته عبادة الذات إلى غير رجعة. أقول يمكن -إلى حد ما- تبرير ذلك، بوصف الاستبداد، مثلما ذكرنا، حالة مشتركة في ثقافة يغيب عنها العمل المؤسسي، والسلوك الديمقراطي، لكن كيف لنا أن نبرر إيغاله في الدماء، لدرجة أن القتل أضحى عند صدام حسين مشروع عمل، وأحد أهم الاستراتيجيات التي تفنن بها هذا الكائن؟

 و كيف لنا أن نبرر «حيونته» الاستراتيجية، أن زج الاستخدام، في التورط بحربين بمدة زمنية لا تتعدى العقد من الزمن؟! وخرج العراق منهما محطماً كلياً، ليس عل المستوى الاقتصادي فحسب بل طال هذا الخراب جميع البنى الثقافية و الاجتماعية، وتُركَ العراق ينزف حتى الموت، ثم تلاه حصاراً مدمّراً أجهز على ما تبقى من الروح العراقية، ومنذ ذلك الحين تفشّت حالة الفساد والمحسوبية، وبدت الظواهر الاجتماعية السلبية تنتشر بشكل علني. 

يكفي أن نعلم أن الرشوة، والفساد الوظيفي لم تكن ظاهرة متفشية قبل فترة الحصار، ولم تكن الكثير من المشاكل الاجتماعية معهودة لدى عموم العراقيين، مثل التزاحم على الحاجات الأساسية، والخوف من الجوع، لولا ظهور فكرة البطاقة التموينية.

بأي حال من الأحوال، ربما ليس من المبالغة في شيء لو وضع السياسيون الآن تاريخ صدام حسين أمام أعينهم بوصفه عبرة قريبة العهد عايشها معظمهم، وأن يقدموا النموذج الذي فشل فيه صدام حسين لدرجة أنه أفقده عقله، وأعني به النموذج السياسي العادل، ذلك أن الخطابات ذات الطابع التجريدي لا تلمس وجدان المواطنين، وإنما الفعل الملموس.

مؤكد أن المقارنة بعيدة جداً، بيد أنها ليست مقارنة بالمعنى السائد، وإنما اعتبار من زمن مضى، وإرادة للدفع باتجاه الديمقراطية والعدالة والتفاني من أجل بناء البلد، طالما هناك ثروة طبيعية وبشرية نتمتع بها، فهذا هو المقصود بالضبط: العمل بإخلاص لخلق النموذج المغاير، والتأسي والاعتبار بأحداث التاريخ.