بورتريه باريسي

الصفحة الاخيرة 2024/02/22
...

د. طه جزاع
صورة نادرة ومدهشة من مقتنيات إنعام كجه جي كانت قد صورتها بكاميرتها الشخصية قبل عصر الهواتف الذكية في بيت فائق حسن ببغداد، يظهر فيها الرسّام الكبير واضعاً كفه اليمنى على اليسرى، وأمامه منحوتة ليديه في الوضعيّة نفسها، صنعها جواد سليم قبل أربعين عاماً من تاريخ التقاط الصورة. الغريب أن اليدين والأصابع الطويلة مثل مفاتيح البيانو لم يتغيرا وكأن المنحوتة أُنجزت في يوم زيارة إنعام لفائق، كما تحب أن تسميه.

لكن لماذا لم ينحت جواد وجه فائق حسن، أو حتى يصنع له تمثالاً بحجمه الطبيعي، أو بحجم نصفي كالمعتاد؟. تنقل إنعام عن جواد قوله لفائق: لن أنحت وجهك بل يداك لأنهما أصل إبداعك. وفي الشهادة التي نشرتها في كتابها عن سنوات لورنا مع جواد سليم مع عدد من الشهادات الأخرى لمحمد غني حكمت ولميعة عباس عمارة ومحمد مكيّة ورفعت الجادرجي، يقول فائق: "ولأنَّ جواداً كان مأخوذاً بكل ما تستطيع أن تبدعه يد الإنسان، فقد طلب منّي ذات يوم أن أجلس أمامه وأشبك كفّيّ لكي ينحت لهما تمثالاً. قال لي إنّ هاتين اليدين الخشنتين تستحقان التخليد لأنّهما تجيدان الرسم والنحت والنجارة والبناء والطلاء والطبخ والخياطة والبستنة!. وخلال إنجاز التمثال الذي أحتفظ به في بيتي، ذكرى عزيزة من صديقي الراحل، جاء أحد الزملاء من الفنانين وسأل جواداً: لماذا تنحت يدي فائق... وليس وجهه؟. ونظر جواد إلى السائل نظرته الباردة الشهيرة وأجاب: وهل تستحقّ كل الأيدي أن تسمّى كذلك ...؟".

الحديث مع الكاتبة والروائية إنعام كجه جي، يحيلك إلى أسماء كثيرة، ومعلومات مثيرة، وذكريات طريفة، وحكايات لا تعرفها إلا هي، ومقتنيات لا يملكها سواها، فقد التقت عبر حياتها الصحفية الطويلة بعشرات الشخصيات المؤثرة التي تابعت مسيرتها، وتحملت الصعاب، وقطعت مسافات بعيدة من أجل أن تلتقيها، مثلما عملت في كتابها عن لورنا سليم، وهناك شخصيات أخرى واقعية لكنها غير معروفة، عاشت حيوات متقلبة بسبب الانقلابات والتغيرات الاجتماعية والسياسية، واغتربت عن أوطانها، أضفت عليها إنعام من خيالها الخصب ما جعلها شخصيات روائية في سردياتها القصصيّة والروائيّة التي تُرجمت إلى لغات عديدة، بعد أن جمعت طشّارها وربطت بين شخصياتها عبر التاريخ والجغرافيا والخيال الواسع، ناهيك عن استمرارها في كتابة الأعمدة الصحفيّة. وبعد انتهاء مناقشة أطروحتها للدكتوراه في السوربون قال لها رئيس لجنة المناقشة المفكر محمد أركون إنّه مستعد ليمنحها الدكتوراه لا على الأطروحة، بل على أعمدتها الصحفية التي كانت تنشرها في مجلة الوطن العربي!. تحتفظ إنعام برسم بورتريه تخطيط بالفحم مُعلَّق في بيتها الباريسي، كان قد رسمه لها فائق حسن أثناء زياراته للعاصمة الفرنسية وتجوالهما معاً في الحي اللاتيني أواخر الثمانينات، لم تصوره ولم تنشره وقد مضت عليه كل تلك السنين البعيدة.

 ربما نشاهدهُ على غلاف مذكراتها في حال قررت كتابتها ذات يوم، لم يحن أوانه بعد.