نحن والفجوة التنمويَّة

آراء 2024/02/26
...







 ياسين العطواني


في ظل التحولات الدراماتيكية التي شهدها العراق، وعلى أكثر من صعيد، فان الحاجة تدعو للإطلاع على تجارب الآخرين، لا سيما البلدان التي مرت بظروف مماثلة، واستطاعت خلال فترات معقولة تجاوز الأزمات السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية التي مرت بها، ومن ثم التحول إلى مرحلة التنمية الشاملة والمستدامة وبإمكانيات

ذاتية.

وعلى الرغم من امتلاك العراق لموروث حضاري كبير، وهو من الغنى بحيث لا يمكن إنكاره أو تجاهله، إلا أن هذا الموروث وتلك التجارب بحاجة إلى إنضاج ومواكبة للتطورات، التي شهدها العالم من حولنا اليوم، على اعتبار أن هذه البلاد قد شهدت انقطاعاً تاماً عن العالم الخارجي قبل عملية التغيير، وما لحق ذلك من تداعيات بعد التغيير، الأمر الذي ولد فجوة تنموية كبيرة بيننا وبين هذا العالم المتحول، وهذا الحال يتطلب منا العمل بجدية ونكران ذات لردم هذه الفجوة التنموية.

وأعتقد أن أقصر الطرق للوصول إلى ذلك يكمن في الانفتاح على العالم والإطلاع على تجارب الشعوب الناجحة من اجل تكييفها والاستفادة منها، لا سيما في المجالات التنموية.

وبالإمكان التعرف على تجارب عالمية تشير إلى أن هناك بلدانا وشعوبا مرت بحروب وأزمات طارئة، إلا أنها تمكنت من عبور تلك الأزمات والوصول نحو شاطئ الأمان وبأوقات قياسية، بعد اعتمادها النهج السليم في معالجة وإدارة الأزمات، ووضع الخطط الستراتيجية الشاملة للنهوض مجدداً، وبين أيدينا العديد من التجارب الناجحة التي يمكن أن يُشار لها بالبنان. 

وهنا نود التأكيد إلى أننا لا ندعو إلى استنساخ تجارب تلك الدول حرفياً، على اعتبار أن لكل

دولة ميزات وطبائع وظروفا تختلف عن الدولة الأخرى، ولكن بالمقابل هناك مشتركات سياسية وأقتصادية وتنموية يمكن الاستفادة منها.

وأمامنا أقرب تجربة تاريخية وجغرافية يمكن الاستفادة منها، ونعني بها تجربة جنوب شرق أسيا أو ما يعرف بالنمور الآسيوية، فالمعروف أن هذه البلدان كانت تعاني من الفقر المدقع، ومن ندرة الثروات والموارد الطبيعية، ومن مشكلات عرقية واجتماعية، وكذلك دخلت في حروب أهلية وخارجية، فعلى سبيل المثال كوريا الجنوبية خرجت من حرب أهلية قُتل فيها الكثير لتتحول خلال سنوات قليلة إلى دولة صناعية رائدة تملك اليوم تاسع أكبر اقتصاد في العالم، وكذلك الحال مع سنغافورة التي كانت تستورد مياه الشرب، في حين كانت تايوان مجرد جزيرة صغيرة لإيواء الصيادين، وخلال سنوات محدودة حققت قفزات اقتصادية مدهشة وضعتها ضمن أكبر اقتصاديات العالم، والشيء نفسه بالنسبة لهونج كونج وماليزيا وإندونيسيا.

فقد استطاعت تلك البلدان، وخلال فترة قصيرة لا تتجاوز 25 سنة أن تحقق نمواً هائلاً وتطوراً كبيراً، نال إعجاب وثناء العالم أجمع، وباتت تجربة النمور الآسيوية مثالا يُحتذى به في مجال التطور الاقتصادي والتنمية المستدامة.

وقد يتساءل البعض عن السر وراء تقدم هذه البلدان، وما حققته من ثورة تنموية شاملة، لا شك أن هناك جملة من العوامل التي ساهمت في ذلك، فقد انتهجت مجموعة النمور الآسيوية السياسات والوسائل العلمية والعملية لتحقيق ذلك، وخلق إدارة فعالة لبرامج التنمية المستدامة، تستجيب إلى المتغيرات والظروف الآنية والمستقبلية، يقف في مقدمتها التعليم، كمدخل أساسي لعملية التنمية، إذ لا يمكن أن يحدث تقدم بدون إنسان واع متعلم، فأساس نجاح التنمية الاقتصادية الآسيوية هو وجود العنصر البشري المحلي الكُفء، الذي يقوم بعملية التخطيط والتنفيذ لتلك السياسات وتطبيقها على أرض الواقع.

فقد وضعت هذه الدول ستراتيجية للتعليم قامت على ثلاثة أسس وهي، محو أمية الكبار، والتركيز على التعليم التقني والفني، وزيادة الموازنة المخصصة للتعليم.

ولهذا ليس من المستغرب أن تكون وزارة التعليم في تلك البلدان أهم من الوزارات السيادية، كوزارة الدفاع والداخلية والخارجية، من حيث التخصيصات المالية وما ينفق من الموازنة العامة للبلاد على التعليم، بدءًا من التعليم الأساسى وحتى التعليم الجامعي.

كما كانت لهذه البلدان رؤية صارمة في مكافحة الفساد من خلال التشريعات والقوانين، ولم تنجح في مشاريعها الاقتصادية التنموية، إلا بعد أن بدأت أولاً بمحاربة الفساد.

وبذلك تحولت دول النمور الآسيوية خلال العقود الماضية من بلدان تعيش على المساعدات إلى بلدان مانحة لها، بفضل اعتمادها على السياسات التنموية الشاملة، من خلال العمل الجاد والمثابر على توفر الأسباب والموجبات لهذه التنمية وإنجاحها.

والسؤال البديهي الذي يطرح نفسه بقوة، أين نحن اليوم من هذه التجارب الناجحة، وما مدى الاستفادة من تلك التجارب؟، بالتأكيد لا تزال المسافة التي تفصلنا عن تلك التجارب بعيدة، بسبب جملة من المعرقلات البينية التي رافقت العملية السياسية، يقف في مقدمتها فشل السياسات الاقتصادية المتعاقبة، ولكن مع وجود هذه الخيبات والمعرقلات ما زال الأمل معقوداً على الطاقات الكامنة التي يمتلكها هذا البلد، وهي كثيرة ومتعددة، فالعراق يمتلك طاقات بشرية خلاقة، وثروات معدنية هائلة، وموارد أقتصادية متكاملة، وكل ما يحتاجه هو رسم ملامح جديدة للبلاد، تبدأ بتغيير وإصلاح الواقع السياسي، والاقتصادي، والتعليمي، والى إعادة ترتيب الأولويات، بما ينسجم مع التحولات التاريخية التي يشهدها العالم من حولنا.

ونعتقد هنالك بوادر إيجابية لملامح تنموية ملموسة بدأت تظهر على الطريق، نتمنى أن تردم هذه الهوة التي تفصلنا عن التنمية الشاملة والمستدامة، ومن باب أن تأتي مُتأخراً خير من أن لا تأتي أبداً.