علي فائز
هذه البنية تعد من سمات الأنظمة الحديثة، فمن جانب تمتلك هذه الأنظمة بنى متمايزة (هيئات تشريعية، وتنفيذية وقضائية) ولا يكون هذا التمايز شكليًا بل واقعي، وايضًا بنى تحتية سياسية متمايزة، تتمثل في الأحزاب السياسية وجماعات المصالح، ووسائل الاتصال بالجماهير، ومع هذه البنى التحية أصبحت الثقافة «مساهمة» وذلك بتأثير من النظام السياسي، وهنا يصبح للجماهير الدور الذي يأخذ أشكالا متعددة (حق التصويت، التظاهر، تقديم العرائض، الخ)، كما ترتبط الثقافة المساهمة بوعي الجماهير ومعرفتهم بالنظام السياسي ومؤسساته ومدخلاته ومخرجاته، وهذا النمط يسود في الأنظمة الحديثة الديمقراطية إذ يكون للرأي العام الدور الكبير والمؤثر عبر القنوات التي تشكله (أحزاب جماعات ضغط، تصويت، احتجاجات).
كما تتميز بنية الأنظمة الحديثة بمرونتها، الأمر الذي يمكن ملاحظته من خلال تعاملها وقدرتها على التكيف مع الاحتجاجات والاضطرابات، فهي بإمكانها أن تحافظ على وظائف النظام الأساسية، دون تغيير فمرونة النظام السياسي، تتجلى من خلال قدرته على أداء وظائفه، على الرغم من تعرضه لمدخلات غير اعتيادية قد تكون احتجاجات أو صدامات، وذلك من خلال قدرته على الاستجابة للتغير أو الصدمات عن طريق تفعيل خصائص التكيف والملاءمة، فالمرونة عنصر مهم من عناصر الاستدامة.
فضلًا عن ذلك ثمة من يذهب إلى قياس مرونة النظام وبنيته من خلال تعامله مع المجتمع، إذ إن من سمات الدول المتقدمة هي رفع ثقافة الفرد السياسية، وتحويلها من ثقافة خضوعيه أو تابعة إلى ثقافة مساهمة، فالفرد في هذه الأنظمة يعد محور العملية البنائية ومحور هندسة الحكم في الدولة.
ويذهب (لوسيان باي) إلى أن قياس مرونة النظام السياسي تتجلى عبر عدة أنماط:
أولًا- القدرة على الاستحداث: «وهي قدرة النظام السياسي على التعامل مع الأوضاع الجديدة التي تحدث في المجتمع والتكيف معها بإشباع المطالب المستجدة، ومعالجة التطورات الحديثة».
ثانيًا- القدرة على التعبئة: «ويقصد بذلك قدرة النظام السياسي على تعبئة المصادر البشرية والمادية لغرض اجراء تحولات في المجتمع، ودينامية النظام السياسي تتجسد في المدى الذي يحقق فيه هذه التعبئة.» ويتجلى تحقيق القدرة على التعبئة بفرض هذه الإجراءات وهي: «تحويل مطامح الجماهير إلى برامج وسياسات، والقيام بالمشروعات الجماعية، استخلاص المصادر البشرية والاقتصادية الضرورية وتنسيق السلوكيات والنشاطات للأفراد والجماعات وأخيرا الحفاظ على نوع من النظام العام».
وتطلب القدرة على التعبئة قبل كل ذلك وجود مؤسسات سياسية حديثة وقوية، وسلطة سياسية قادرة على فرض ارادتها على ما يواجهها من عقبات، فضلًا عن توفر نظام قانوي واداري، وهذا ما أكده صموئيل هنتنغتون بالقول: « يكون النظام السياسي، الذي توجد فيه مؤسسات سياسية متعدد ومختلفة أكثر قابلية للتكيّف وقد يصار إلى مواجهة متطلبات جيل بمجموعة من المؤسسات... اذ يتضمن النظام في ذاته وسائل تجديده الذاتي وتكيفه».
ثالثًا- القدرة على البقاء: فلكي تحافظ الأنظمة السياسية الحديثة على بقائها يجب عليها أن تؤسس بنى اجتماعية وسياسية متخصصة تساند النظام وتؤدي وظائفه، وذلك يحصل عن طريق تنشئة أفراد المجتمع لتقبل خططه وسياساته ليس هذا فحسب، بل عليه أن يكسب أكبر عدد من الافراد ويرغبهم بالانخراط في الحياة العامة ويغذوا حاجات مؤسسات الدولة.
وهكذا يخلق الاستقرار السياسي للنظام، إذ إنه ينجح في التعامل مع الازمات التي تواجهه وقدرته على إدارة الصراعات داخل جسد المجتمع، فكلما كان النظام قريب من المجتمع؛ تمكن من التعامل السلس مع الأحداث التي تحصل بينه وبين المجتمع، إذ إنَّ هذه المرونة تمكنه من القيام بما يلزمه من تغيرات للاستجابة لمطالب الجماهير وبذلك تسمح له هذه المرونة في البقاء وتمكين الأمن الاجتماعي داخل الدولة.
وبالعودة إلى (لوسيان باي) فانه يضع مقياسًا للنظام السياسي المتطور وهو (الميل نحو المساواة)، إذ إن ميل النظام السياسي للمساواة يترجم عبر هذه الأصعدة:
المساهمة الشعبية بالنشاطات السياسية: وهذه تتحقق عن طريق الانتقال من السياسة الخضوعية الرعوية إلى مفهوم المواطنة والمشاركة السياسية، إذ يسهم الأفراد في العمل السياسي.
سيادة القانون: وذلك يتحقق عبر تطبيق القانون على الجميع دون تمييز.
المساواة أمام الوظائف العامة: حيث يتاح للمواطنين تبوئ المراكز العامة بصرف النظر عن الطبقة الاجتماعية والوراثة أو الدين أو الطائفة.