د.عبد الواحد مشعل
وجد المثقف نفسه بشكل مباشر أو غير مباشر أمام خيار صعب، أما الانخراط في اقتصاد السوق وتقليد ثقافة وافدة دون استطاعته التأكيد على هويته الوطنية، حتى وقع في دائرة الطائفية تارة أو العرقية تارة أخرى، دائرة العصرنة تارة ثالثة، وكأنه يعيش حالة تيه في عالم التحولات الثقافية الرقمية وحيثيات الذكاء الصناعي، حتى يكاد يفقد القدرة على تعديل البوصلة في مجتمع تحمكه نواميس، لم يعد يفرز منها شيئا يتلاءم مع مهمته الأصلية، وهي الاهتمام بقضية رأي عام يدافع عنها بكل ما يمتلك من حماسة، دون أن تتهيأ امامه وحدة الموضوع في عالم متلاطم الأفكار، حتى وجد نفسه تحت ضجيج ثقافة معولمة من حيث يدري ولا يدري، وهذا بحد ذاته يمثل انتهاكاً للفكر الوطني الديمقراطي (التجربة المجتمعية المستمدة من قيم المجتمع نفسه). أو يكون ثوريا رافضا لكل أشكال التنميط، وفي هذه الحالة سيواجه تحديا أكبر، نظرا لفقدانه آليات التصدي والتعبئة الشعبية، بعد أن أصبح البعد الأيديولوجي التقليدي خارج نطاق اللعبة، فيقع في دائرة التهميش والانكفاء على الذات، وفي هذا ايضا انتهاكا لكرامته وقيمه.
فعانى المثقف ابان النظم الاستبدادية الرافضة لأي فكر مغاير لأيديولوجيتها، حينما تمت تصفية مئات المثقفين وأصحاب الفكر من قبل اطراف متصارعة في الساحة السياسية في بلدان مختلفة بتوجهاتها الفكرية واشكل نظمها السياسية ما استدعى ذلك في فترات متلاحقة ظهور نمط جديد من المثقفين اطلق عليهم المثقفون المرتزقة، الذي يلون عنق الحقيقية حتى بقي المثقف الأصيل في زاوية لا يستطيع مغادرتها أو يتمكن من شد العزم مهاجرا خارج بلاده. ويرى الدكتور قيس النوري عالم الأنثروبوجيا العراقي في مؤلفه (الشخصية العربية ومقارباتها الثقافية،1211، ص334-342 ) أن الشخصية العربية بعموميتها، سواء البسيطة أو المثقفة أو المفكرة تعيش تراكمات العولمة بكل أبعاده، والمقصود بها الإرث الاجتماعي والثقافي والسياسي الذي خلفته الدول الغربية في العالم العربي، وما يحط بها من مواقف واتجاهات الشعوب التي تأثرت بها، أما المستجدات فهي الأحداث الجارية التي تولدت وتتولد من التدخل والتأثير الغربي الشمولي في حياة الشعوب، وإن تفاعل الشخصية العربية، ولا سيما العراقية يجري على مستويات عدة، ويثير ردود فعل مختلفة، يفهم من ذلك أن تأثير العولمة في الشخصية العربية يظهر في تغريبها، كما يتفاعل معها عن طريقة عولمة التكنولوجيا ووسائل الاتصال متسارعة التطور، كذلك يعيش الإنسان العراقي، ولا سيما المثقف في زمن العولمة على إيقاعات التأثير الأيديولوجي، الذي هو أكثر الجوانب جدلا وانقساما في العالم، لا سيما أن العولمة يغلب عليها التوجه الأيديولوجي الغربي، كذلك يثير هذا الموضع قضية أخرى مهمة، وهي العولمة وصورة الآخر، على اعتبار الغرب مركز استقطاب، وهو يولد لدى المجتمعات التقليدية مجموعة من الانقسامات والانطباعات التي تؤلف الصورة الذهنية، بعيدة تماما عن التوازن، وزاخرة بالمفارقات والتناقضات، ولعل هذا الواقع مثل ولا يزال يمثل جوهر إشكالية التناقضات الثقافية، التي انعكست بشكل مباشر أو غير مباشر على رسالة المثقف الإنسانية ووضعته أمام خيارات صعبة في زمن في تشتت الأفكار على المستوى المحلي أم على مستوى التيار الثقافي العولمي، حتى وجد نفسه حائرا بين التصدي للوافد أو متكيفا معه، وربما مستسلم له، وهو واقع بات فيه المثقف نفسه أما مهمشا لا يجد لأفكاره صوتا مسموعا أو يعيش حالة من العوز الاقتصادي أو حالة من الاغتراب، وسط واقع تظهر فيه اشكاليات التنوع الفكري، الذي جعله رافضا لما يراه غريبا عن رسالته الانسانية، فعاش في دائرة ضيقة من التفاعل، أم قابلا لما يطرح أمامه من محاسن ومساوئ الحضارة، أو مجادلا اشكاليات التناقضات الثقافية، وهو يعيش هاجسا يجعله يشعر وبإلحاح أنه يحتاج إلى لغة بمستوى تحدياته الراهنة، وهذا يمثل جوهر الإشكالية التي يعاني منها.