القوة الناعمة بديلًا عن صدام الحضارات

آراء 2024/02/29
...

علي المرهج

بدا مفهوم {القوة الناعمة} اليوم أكثر تداولا في السياسة الدولية والعلاقات بين الدول، بل حتى بين الجماعات الأثنية ذات العلاقات المتوترة بوصفه تمثيلا للجمال والريادة الثقافية والألق العلمي، كي يكون أنموذجاً للجذب والتفاعل، وليكون بديلا أمثل لقوة الإرغام والقسر والقهر الذي ساد طوال القرون السابقة، ألا وهو استخدام {القوة الصلبة}، وحل الخلافات بين الدول والجماعات المتصارعة عبر الحرب.

أما ما يبغيه جوزيف ناي من طرحه لرؤيته حول "القوة الناعمة" فهو البحث عن بديل أمثل لتجاوز لغة الحوار بفوهات البنادق وقاذفات المدافع، التي ينشدها دُعاة "القوة الصلبة"، ويعتقد أن بإمكان أمريكا أن تجعل من "القوة الناعمة" أداة ووسيلة أكثر مقبولية عند الشعوب وأقل تكلفة مادية من "القوة الصلبة"، التي اعتمدتها بوصفها الحل الناجع لتحقيق النصر.
فمُلخص رؤية (جوزيف ناي) يقوم على الدعوة لتوسعة النشاط الثقافي والجمالي والعملي الذي أنتجته الحضارة الأنكلوسكسونية، وتصديره لتلك البُلدان عبر وسائل "الميديا" أو "الثورة المعلوماتية"، أو عبر وسائل التواصل الدبلوماسي والثقافي والأكاديمي، ومحاولة كسب العدد الأكبر من شباب هذه البُلدان، التي تُصدَر العُنف لتعريفها وتنميطها وفق أنموذج أنكلو سكسوني تغلب عليه نزعة الأمركة، وسيكون لهذا التنميط تأثيره الفاعل وقدرته الكبيرة في "الاختراق الثقافي" للمُجتمعات المُنغلقة، والمتكورة حول ذاتها ثقافياً وعرقياً.
كان الكتاب "القوة الناعمة" تتويجاً لرؤى (جوزيف ناي) وإيضاحاً لمعنى هذا المفهوم وتمظهراته في الكشف عن إمكانات تطبيقه، وتخليص أمريكا من باهض الأثمان التي صرفتها في حروبها، التي استخدمت فيها "القوة الصلبة".
فيما طرحه (جوزيف ناي) حول مفهوم (القوة الناعمة) إمكانية لتوظيف مفهومه هذا، وفق سياقات لا تخل كثيراً بمنظومتنا الاجتماعية، فهو مفهوم في سعة للتدجين والتوظيف الأمثل من دون قسر لنصوص تراثية، كما فعل دُعاة الاشتراكية أو الليبرالبية من الإسلاميين، حينما ظلَوا يُنقبون عن أحداث تاريخية ونصوص تؤيد وجهة نظرهم في تبنيهم لأيديولوجيا الإسلام الإشتراكي، أو الإسلام
الليبرالي.
ما طرحه (جوزيف ناي) هو درس في التربية والتنمية لا علاقة له بتأويل نصوص، كما لا علاقة له بتفسير أو تأويل لتاريخ أو تراث، إنما هو مُمارسة وإجراء عملي تقوم به الحكومات والجماعات المُرتبطة بها من أصحاب القرار بالعمل على فهم حاجات شعوبهم أولاً، وحاجات الجماعات الفاعلة فيهم، ألا وهم الشباب، وكيفية الإفادة من طاقات هؤلاء الشباب في تنمية مهارتهم الفنية والجمالية والثقافية والرياضية، بل وحتى الدينية عبر العمل على تشذيب هذه المُمارسات وتهذيبها.
لقد جاءت نظرية (جوزيف ناي - 1937 ) في "القوة الناعمة"، وكأنها نقد لنظرية (صموئيل هنتكنتون (1927 -  2008) في كتابه "صدام الحضارات وإعادة تشكيل العالم الجديد"، التي صور لنا فيها أن العالم مُقبل على صراع من نوع آخر، بين حضارات مُتقاربة في البنية التكوينية في التقارب الجغرافي والإتصال الثقافي، والرؤية السائدة والمُهيمنة على طبيعة تفكير مجتمعات هذه الحضارات، وقد كان لهنتنكنون أمثلته التي يُدافع بها عن أطروحته، سواء في وصفه للإسلام السياسي، أو في دعم العالم الإسلامي لصدام حسين، والنزاع بين أرمينيا وأذربيجان، والهند وباكستان، وتسليح إيران في حرب يوغسلافيا لمسلحين من (البوسنيين)، لينتهي للقول بتأكيد الصراع بين الغرب والدول الإسلامية، بل والدول المُتحالفة معها أو التي تسير على نهجها، أو تتوافق معها في البنية الروحية والتكوين الحضاري.
يؤكد هنتنغتون أن مصدر الصدام سيكون ثقافياً، فمع حلول النظام العالمي الجديد، "ستكون الأسرة، والدم، والعقيدة، هو ما يجمع الناس، وما يُحاربون من أجله، ويموتون في سبيله".
والغرب سيكون أيضاً خاضعاً لهذا الشكل من الصدام، ككتلة واحدة لأنه يشترك بمجموعة من السمات، أهمها:
التراث الكلاسيكي من الإغريق والرومان. والمسيحية الغربية الكاثوليكية والبروتستانتية. واللغات الأوربية، والفصل بين السلطتين الروحية والزمنية، وحُكم القانون، والتعددية الاجتماعية والمُجتمع المدني، والنزعة الفردية.
لذلك يتنبئ هنتنغتون بصراع عالمي مُتعددة الأقطاب، "مُتعدد الحضارات في عالم ما بعد الحرب الباردة"، على قاعدة "نحن ضد من" للإجابة على سؤال "من نحن؟"، والإجابة على هذا السؤال هي إجابة تقليدية، فالناس يعرفون أنفسهم من خلال النسب والدين واللغة والتاريخ والقيم والعادات المُشتركة، ويتطابقون مع الجماعات الثقافية: (قبائل ـ جماعات أثنية ـ مُجتمعات دينية ـ أُمم) ومع الحضارات على المُستوى الأكبر، وستظل "الدول القومية" هي "اللاعب الرئيس" في شؤون العالم.
يختتم (جوزيف ناي) كتابه بنصيحة للولايات المُتحدة الأمريكية بالانفتاح على ثقافات الشعوب المُباينة والمُختلفة والرافضة لسياسة أمريكا الخارجية وفتح الآفاق الدبلوماسية، وتجاوز الفكرة الوهمية القائلة بـ "إمبراطورية أمريكا"، التي تبناها بعض المفكرين الأمريكيين ومؤيديهم، بل وحتى ناقدي سياستها، لأن "الإمبراطورية ليست سوى استعارة"..."ليست الولايات المُتحدة مُهيمناً ولا إمبراطورية".