د. طه جزاع
ويعلن مدني صالح ذات يوم، انه يتفق مع علي الوردي بتفضيل بروتاغوراس على سقراط، مثلما يفضل أفلاطون على أرسطو في البناء الحضاري سياسة وأخلاقاً وتشريعاً، وأرسطو على افلاطون في البناء الثقافي علماً وأدباً وفناً، ومعلوم ان بروتاغوراس هو من أشهر السوفسطائيين، بل هو زعيمهم ومؤسس مدرستهم في القرن الخامس قبل الميلاد، وآليه تُنسب المقولة الشهيرة في المعرفة: "الإنسان مقياس الأشياء جميعاً.. هو مقياس وجود ما يوجد ومقياس لا وجود ما لا يوجد".
وإن افترضنا صحة اتخاذ الوردي وصالح المنهج السوفسطائي، فهذا معناه انهما نسبيان في المعرفة، أي ان كل الحقائق نسبية ولا وجود لحقائق مطلقة، وبالتالي تصبح المعرفة الحقيقية من المستحيلات، وما العلم إلا فرضيات أُخضعت للتجربة والاختبار، وتم التأكد من صحتها في جميع الظروف والمتغيرات فتحولت إلى نظريات علمية هي أساس كل العلوم.
إن النظرة النسبية السوفسطائية تؤدي إلى نتيجة واحدة لا غير هي استحالة قيام العلم واستحالة المعرفة، فهل كان مدني يقصد ما يقول، أم أنَّها سخرية من سخرياته الشهيرة التي يغلفها عادةً بطابع الجد، حتى لتبدو أنه يقول الحقيقة، ومن أمثلة ذلك تقييماته النقدية الأدبية المعروفة ؟
وهل يكون ذلك هو السبب الذي دعاه لأن يطمئن بأن الوردي لن يخذله في هذا الأمر؟.
لو كان الوردي الساخر أيضاً في بعض مفرداته وتعليقاته حياً حين أطلق مدني كلامه، هل كان سيؤيده في قوله، أم أنه سيخذله، لأنه قد لا يرغب بأن يقول في العلن ما يمكن أن يفسر تفسيراً بعيداً عن مقصده؟
أما انه مع الوردي يفضلان أفلاطون على أرسطو في البناء الحضاري سياسةً وأخلاقاً وتشريعاً، ويفضلان أرسطو على أفلاطون في البناء الثقافي علماً وأدباً وفناً.
فذلك هو ديدن أغلب فلاسفة الإسلام، وفي مقدمتهم الفارابي وابن سينا، هم مشائيون مع أرسطو في العلوم الطبيعية والآداب والفنون، لكنهم ينقلبون إلى أفلاطونيين، حين يتعلق الأمر بالإلهيات والسياسة والأخلاق والتشريع، رغبة أو اضطراراً من باب التوفيق بين الفلسفة والدين، أو خشية من تُهم الإلحاد، التي كانت وما زالت تلاحق الفلاسفة والمفكرين عبر آلاف السنين، منذ عصور الظلام ومحاكم التفتيش، والى يومنا هذا، الذي اكتشف فيه العلماء خريطة الجينات البشرية، وأطلعوا على أدق التفاصيل عن الفضاء الكوني، وأسراره المُذهلة.
قد يكون الإنسان الذي كرَّمه الله بالعقل، هو مقياس كل شيء، وقد تعجب النسبية مدني والوردي، ومن في صفهما، وعلى موقفهما، لكن من يضمن أن نزعاته ورغباته وعواطفه ومصالحه الفردية، تجعله حراً ليحكم وفق المقاييس العقلية والمنطق السليم؟.
ومن يضمن عدالة الإنسان النسبية، يوم يغيب القانون، ويتقهقر الضمير، وتسود الفوضى، ويتبخر العدل المطلق؟.