سائق التاكسي وحكومة السوداني.. شهادات حيَّة من شوارع العاصمة

آراء 2024/03/04
...

علي البيدر


تلتقي كل يوم بشرائح مجتمعية مختلفة وشخصيات نوعية تنقل له وجهات نظر مختلفة، لتتشكل عنده صورة تفصيلية عن واقع المجتمع والحياة في المدينة، التي يعمل فيها. اما اذا كان سائق التاكسي يعمل في العاصمة، فإن رؤيته ستكون أعمق عن واقع البلاد بشكل عام، لاحتكاكه بعدد هائل من الركاب، الذين ينقلون الكثير من المعلومات الغائبة عن المجتمع والدولة بذات نفسها
يقول الكاتب المصري خالد الخميسي في كتابه تاكسي : حواديت المشاوير “ إن سائقي التاكسي من كل التخصصات ومن جميع الشرائح العلمية، بدءاً من الأمي إلى الحاصل على شهادة الماجستير، لأني لم أقابل حتى الآن سائقي تاكسي حاصلين على الدكتوراه.
لدى أولئك السائقين خبرات واسعة بالمجتمع، حيث إنهم يعيشون عمليًا في الشارع يلتقون بمزيج هائل من البشر بشكل يومي، وتجتمع لديهم من خلال الحوارات التي يقيمونها وجهات نظر معبرة جدًا عن شريحة (الغلابة) في المجتمع.
والحق يقال فإنني كثيرًا ما أرى في التحليل السياسي لبعض السائقين عمقًا اكثر مما اجده لدى العديد من المحللين الذين يملؤون الدنيا صخبًا.
لا أحد يتسطيع نكران ما قاله الكاتب المصري، فسائق التاكسي شخصية فولكلورية، تلتقي كل يوم بشرائح مجتمعية مختلفة وشخصيات نوعية تنقل له وجهات نظر مختلفة، لتتشكل عنده صورة تفصيلية عن واقع المجتمع والحياة في المدينة، التي يعمل فيها.
اما اذا كان سائق التاكسي يعمل في العاصمة، فإن رؤيته ستكون أعمق عن واقع البلاد بشكل عام، لاحتكاكه بعدد هائل من الركاب، الذين ينقلون الكثير من المعلومات الغائبة عن المجتمع والدولة بذات نفسها.
غالبًا ما يجرك سائق التاكسي إلى حديث جانبي يتعلق بموضوعات لها صلة مباشرة بالوضع الأمني أو السياسي للبلاد، والذي قد يكلف الراكب كثيرا، كما لو أن مهمة سائق التاكسي لا تقتصر على أن يعتاش من وراء مهنته، كسائق تاكسي فقط، وإنما أن يقوم بدور في غاية الاتقان: معرفة آراء الآخرين، حتى من داخل المدينة وحدود الدولة التي تضمّها، وما في ذلك من خاصية استطلاعية، وجسّ نبض الراكب.
بل إن التاكسي تمثل طاقة تعبيرية تنفيسية مستفيضة يغدو نافذة مشرَعة على جوهر المدينة الحقيقة، كاشفاً خباياها، آلامها وبؤسها وتعاستها، وحلمها الأثير وأملها الشحيح، بأن الحياة رغم كل شيء تستحق أن تُعاش؛ وهو أمل ثمين جداً نود في النهاية أن نغلق عليه في القلب ظنّاً به، كي لا يتسّرب مع إحباطات الطرقات.
عادة ما كنت اتحاشى الغوص في احاديث جانبية مع سائقي التاكسي تدخل عميقًا في واقع البلاد المتخمة بالاحداث والتفصيلات، مخافة من أن تنزلق مني كلمة، يتم تفسيرها بسوء وقد تقودني ربما إلى الهلاك، لكن فضولي المعرفي ورغبة مني في قتل الوقت يجبرانني على خوض نقاش محتدم مع أول سائق اركب معه في المدينة التي ازورها، حيث غالبًا ما ينتهي الحوار بالنتيجة التي يريدها السائق، وقد امنحه ما يريد من موقف مثلما أمنحه ما يريد من أجرة حتى لو ضاعف ثمنها.
في بغداد العاصمة، تختلف مهنة سائق التاكسي عن جميع المهن التي يمارسها الافراد، فالسائق يقضي معظم يومه غارقا في الزحام وسط مدينة تضم اكثر من 2 ونصف مليون سيارة، منها أكثر من 300 الف سيارة اجرة، كل تلك الاعداد من السيارات جعلت مزاج سائقي التاكسي يكون مضطربًا طوال الوقت، وهذا ما يجعله يصب جام غضبه على كل شيء حوله، بدءاً من الحكومة، وصولًا إلى السائقين الذين يصفهم بغير المنضبطين، وليس انتهاءً بواقع الخدمات المتعثر في البلاد، فضلًا عن واقعه المعيشي البائس إلى حد ما نتيجة ظروف مهنته وظروف البلاد وتفاصيل كثيرة يطول شرحها.
مؤخرًا تكررت زياراتي إلى العاصمة، وفي كل مرة استطلع وجهات نظر سائقي التاكسي فأجدها متابينة كالعادة، لكن هذا التباين ينحصر في اتجاه سخطهم على واقع البلاد، وسوء الخدمات والكثير من الامور التي يعرفها العراقيون، وهذا ما يجعلني اتعمد في تسبير أغوار السائقين، حتى احصل على خلاصة الوضع في العاصمة لاستطيع تقييم حال البلاد من خلال ما تعيشه بغداد أولًا، والتي تشهد تقدمًا كبيرًا في الخدمات وهو ما اكده سائقو التاكسي، الذين رفض معظمهم انتقاد اداء رئيس الوزراء وحكومته، التي وصوفوها بالافضل في تاريخ البلاد على حد قولهم.
محاولاتي الجادة في تسليط الضوء على بعض السلبيات الصغيرة هنا وهناك، باءت بالفشل امام إصرار سائقي التاكسي الذين يرفضون كل نقد يسيء للحكومة وفق رؤيتهم، حيث قال أحدهم بنبرة حادة “ عمي الرجال يريد يشتغل من كل عقله بس انطوه وقت”، وكأنه يستجدي التبرير للحكومة التي تحتاج إلى مزيد من الوقت لمعالجة التركة الثقيلة، التي ورثتها، وفقًا لخبراء تتلاءم وجهة نظرهم مع طروحات سائقي تاكسي العاصمة، الذين يتحدثون عن مشاريع استراتيجية تنفذ في جميع مناطقها التي تعج بالاختناقات المرورية نتيجة تشييد المجسرات وحفر الانفاق في مشهد لم يره العراقيون من قبل، وبرغم كل ما تخلفه تلك المشاريع من تأخير في حركة السير، إلا أن هناك تفهما لتلك الحالة الوقتية، والتي ستعالج معظم زحامات العاصمة العائقة لتنقل المواطنين فيها.
إن الانجازات المتحققة في الفترة التي مضت من عمر الحكومة لا يمكن انكارها وبشهادة المعارضين قبل المؤيدين، لكن حجم الاخفاق المتراكم يحتاج إلى فترات زمنية طويلة قد تفوق عمر الدورة الحكومية الواحدة وجهود مضاعفة تحتاج إلى دعم سياسي وإعلامي كبيرين تفتقر إليهما المرحلة الحالية، بل العكس من ذلك، ذهبت اصوات مأجورة بعضها يقطن خارج البلاد صوب خانة المعارضة التسقيطية، التي تحاول رسم صورة سوداوية عن الواقع البلاد برغم عدم تعايشها معه، لكنها لا تريد للعراق المزيد من الاستقرار نكاية بجهات سياسية، أو حتى بالنظام القائم أو بحاجة ضيقة في نفسها.
اليوم وحين نتحدث عن واقع العراق، لا يمكن أن نصفه بالمثالي، لكنه الأفضل منذ 20 عاما وبشهادة المتذمرين والساخطين على الحكومة، ومنهم سائقي التاكسي وتلك شهادة ممكن أن نلمس منها تحسن الوضع بشيء يدعو للإطمئنان ويؤكد أن حكومة السوداني تحاول جاهدة تقديم كل ما لديها للعراقيين، برغم المعوقات التي تقف أمامها.