عبيد الطاغية

آراء 2024/03/14
...


 رعد أطياف

ثمة إشكالية عويصة توضح العلاقة بين الحرية حين تتحول إلى مشكلة اجتماعية، وبين الميول الواضحة لدى فئات اجتماعية بخصوص الحنين إلى الطاغية. المجتمع الذي يعتبر الحرية مشكلة اجتماعية، هو مجتمع سيحرم نفسه من ظهور النموذج الديمقراطي الحر.
إذا تحولت الحرية إلى أفق للتفكير فستظهر أجيال تقف بالضد من الطغيان حتى لو كان على شكل محاورة يومية عابرة. في الدول ذات التقاليد الديمقراطية العريقة، والتي تحظى بمساحة واسعة من الحريات، تستكره حتى الاستبداد بالرأي على الإطلاق، بل لا يخطر على بالهم، ولا يندس في محاوراتهم اليومية هذا المرض الخطير.  لقد تحولت الحرية والديمقراطية إلى سلوك اجتماعي معاش بحكم التنشئة الطويلة الأمد، وبفضل هذا النموذج الرائد وما حققه على صعيد السياسة، والاقتصاد، والتعليم. إن الازدهار هو وليد التنشئة الصحية القائمة على التنوع والاختلاف واحترام الحرية ورفض كل أشكال الطغيان.
 إن الحرية والديمقراطية هي الأفق الذي يتحرك من خلاله المواطنون في المجتمعات المتقدمة، وبالتالي يصعب بروز شخصيات شاذة، وتعاني من عقد مرضية مستحكمة وتتسلق إلى دفة الحكم في مجتمع، يعتقد أن الحرية مشكلة اجتماعية، فمثل هذا المجتمع سيسمح بكل راحة ضمير بتمرير الطغاة وإيصالهم إلى دفة الحكم، وسيسمح باستيلاد كائنات سامة وخطيرة مثل صدام حسين.
 بعض الفئات الاجتماعية تتوهم أن الحرية تشكل تهديداً لقيمها الاجتماعية، وعادة ما ترادف بين الحرية والإباحية! وتتناسى عن عمد القيمة العظيمة للحرية من حيث كونها ضد الإكراه، وتسمح للمواطنين ممارسة حياتهم الفكرية والدينية بأريحية كاملة ضمن لائحة من القوانين تنظم شؤون المجتمع. وأشد الناس كرهاً للحرية والتنوع والاختلاف هم العبيد الحاليون لصدام حسين بكل تأكيد. أين نجد هذه العيّنات، أعني الفئات الاجتماعية التي تسمح، أو ليس لديها أدنى مشكلة أخلاقية ببروز طاغية جديد، طالما هم يمتلكون القدرة بتمريغ جباههم تحت قدميه؟ لا تصادفنا أي صعوبة، ولا نحتاج أي تكهنات بخصوص هذا الأمر، ذلك أن مواقع التواصل الاجتماعية تعج بهؤلاء؛ أنها الفئات المستفيدة من الطاغية يوم كان يحكم بالحديد والنار، ويوم كان يتوعد “الخونة” والمعادين لـ”لثورة”( أي ثورة؟)، وبدورهم أورثوا هذا الذلّ والهوان لأبنائهم، فظهر جيل جديد لا يعرف شيئاً عن صدام حسين لكنّه، وبحكم التوريث، وفياً لهذا الوحش الكاسر.
 هذا الجيل الجديد ليست لديه أدنى مشكلة في احتقار الديمقراطية والحرية وتمجيد الطاغية، حتى بعد أن تحسن وضعه الاقتصادي، وبات يستخدم أحدث أجهزة الاتصال، ويركب السيارات الفارهة، ويقتني أغلى ماركات الألبسة والعطور، ويسافر لكل بقاع العالم للترويح عن النفس، لكن لا يمنعه كل هذا الترف من اصطناع العبودية لنفسه، عبر التباكي المستمر على صدام حسين وأيام “الزمن الجميل”.
اللافت في الموضوع، أن محبي ذلك الطاغية سيئ الصيت، حين يستعرضون تاريخه، في الفديوهات المنتشرة في الميديا، لا يستعرضون نظرية سياسية، أو مشروع اقتصادي، أو جهد مؤسسي معين، بل كل ما في الأمر يذكروننا بشواربه المفتولة، ونظراته الحادة، وعنترياته الفارغة، كما لو أنه أحد القتلة المأجورين.
 المضحك في الأمر، أن المطبلين لهذا الكائن تفضحهم الوقائع بشكل مخجل؛ أنهم يترحمون عليه بواسطة الفديوهات، التي يُظهر فيها تهديداته الصريحة بتصفية آلاف الناس بحجة المساس بـ “الثورة”. أكثر من ذلك: تعتبر عباراته الفجّة التي يتوعد فيها بقطع”الخونة” إلى نصفين بمنزلة القصيدة الرومانسية التي يتغنّى بها كثيراً عبيد الطاغية. أما لحظة قاعة الخلد المشؤومة أضحت أيقونة لمعظم المغلوبين على أمرهم.
كان يمكن لصدام أن يسلك طريقاً خيراً في تاريخه السياسي، وكان يمكنه أن يتجنب كل هذا الخراب والرعب وينقش اسمه في سجل القادة الخيرين، لكنّ الفوهة السوداء التي ابتلعته هي عبادة الذات. كان يتخيل نفسه كما لو أنه من أنصاف الالهة، كان يتصرف بعدوانية خالية من الرحمة كما تصفه رواية”عالم صدام حسين”.
 هل يمكن أن نضع تاريخ صدام حسين أمام أعيننا كسجل حافل بأخذ العبر ونقطع الطريق على هؤلاء العبيد؟ بالتأكيد عبر خلق نموذج مغاير قوامه التسامح والاعتراف بالآخر، لكيلا يظهر في المستقبل طاغية جديد وعبيد جدد.