في نقد المجتمع العراقي / 4

آراء 2024/03/18
...

ابراهيم العبادي

رغم هيمنة اطروحة الدكتور علي الوردي في تناشز الشخصية العراقية، وتمظهر قيم البداوة والحضارة في سلوكها تصارعا وانسجاما، إلا أن حفريات حنا بطاطو في (الشيخ والفلاح، والطبقات العراقية القديمة والحركات الثورية الجديدة) سبعينيات القرن الماضي، ومقاربات فالح عبدالجبار، التي انتظمت في أكثر من بحث ودراسة مع مساهمات لإبراهيم الحيدري وقاسم حسين صالح وفارس كمال نظمي وآخرين، وفرت زادا معرفيا تعددت اتجاهاته، هذه الإسهامات المعرفية حاولت أن ترسم صورة لظاهر وخفايا الاجتماع العراقي، وتحولاته ومتغيراته الجامحة.
يكاد يكون الاتفاق كاملا على العناصر الرئيسة التي أثرت وتؤثر عميقا في صناعة الواقع الاجتماعي ، وأعني بها، الدولة وأنظمتها السياسية والاقتصادية والثقافية من جهة، والدين من جهة ثانية.
لقد تناوب حضور الدين والسلطة ليكونا عاملين خطيرين في تفتيت او اعادة تشكيل المجتمع وبنائه على غير اصوله التقليدية، إذ أسهمت التغيرات السلطوية منذ نشأة الدولة العراقية الحديثة عام 1921، واتساع دور الريوع (الاراضي، النفط) ثم التوجهات الأيديولوجية (يمين - يسار )، وشبكة التحالفات التي اعتمدتها السلطات مع قوى المجتمع المتنفذة (اقطاع، شيوخ عشائر، برجوازية صغيرة ناشئة) ولاحقا الجمهور الواسع المرتبط بماتقدمه السلطات له من ثمار الريوع والخدمات، أسهمت جميعها في جعل المجتمع العراقي عاجزا عن إنتاج مؤسسات اجتماعية قًوية، تحمي الأفراد من تغول السلطات وتوفر الحماية له في سنوات القهر والجوع والحصار والعسكرة والتمامية الأيديولوجية، كما أعاقت السلطة ظهور أحزاب وقوى سياسية متينة، قادرة على توفير رؤى ومناهج فكر وثقافة سياسية، تحمي الدولة في حالات التصدع والانهيار.
وفي الوقت الذي كانت السلطات تفقد قدراتها تدريجيا في السيطرة على المجتمع، بواسطة ادواتها القمعية، خسرت في الوقت ذاته ذراعها الآخر المتمثل بامتياز التحكم بالمال، نتيجة الحصار والعقوبات، ووجدت الفئات الاجتماعية المسحوقة نفسها ضائعة ومهمشة، تعيش حياتها بلا تأطير ولا معنى، سوى الكفاح من اجل البقاء، هنا ظهرت الحاجة إلى العزاء الروحي والنفسي كي يعالج حالة الفقر والحرمان والقمع والانقطاع عن مواكبة العالم، بالاتجاه نحو الدين والتدين، لا سيما جانبه الطقوسي الشعبوي، ومظاهره اليومية للتعويض عن الخسارات المتتالية.
كانت المؤسسة الدينية تلملم جراحها بعد سنوات القمع والخنق والتدمير الممنهج، فاستثمرت حاجة النظام السياسي إلى استعمال الدين لتعويض شرعيته المتأكلة، فتحركت لاستعادة انفاسها قليلا، مستفيدة من ظاهرة (العودة إلى الدين)، هذه العودة التي عملت من اجلها الحزبية الاسلامية الحركية ولم تنجح كثيرا، بسبب سرية عملها ونخبوية نشاطاتها وتجفيف منابعها، فاقتصرت نتائج عملها على ولادة جيل اسلامي حركي، تغلب عليه ملامح الطبقة الوسطى والنخبوية الاجتماعية، بلا امتدادات شعبية تكون له سياجا حاميا وعمقا اجتماعيا ضروريا.
جاء التوجه إلى الدين في العراق من بوابتين، بوابة السلفية العقائدية وممارساتها الطقوسية، صلاة جمعة وجماعة، تحفيظ قرأن، تبشير دعوي ونشر للكتب ورد صاخب على المختلفين وسلوك اجتماعي يتمثل بتقصير الثياب واطالة اللحى ومحاربة (البدع )، اما البوابة الشيعية فقد انفتحت لصلوات الجمع والجماعات، والحضور المكثف في الزيارات وترديد للشعارات ذات المغزى السياسي، والمشي إلى المراقد الدينية والاقبال على الدروس الشرعية وإحياء لطقوس عاشوراء.
لم تنتج الظاهرة الدينية في العراق رغم تضخمها، بناءات اجتماعية وسياسية ذات مغزى، ولم تكرس سلوكا دينيا يعتمد الوازع والضمير الاخلاقي والتقوى الاجتماعية، بما يسهم في بناء المجتمع والدولة بعد تحطمهما، اذ سرعان ماتجلت الظاهرة الدينية بشقيها السني والشيعي عن ظواهر تطرفية عنيفة، وعقليات ثأرية وتمامية عقائدية وسلوكية، من يختلف معها تحصده الة العنف والتشويه والنبذ، وساهمت حالة الاحتلال وصدمة الهويات مع الخوف المتبادل والصراع على السلطة والتسابق على المغانم في لحظة انحلال المؤسسات وانهدام صورة وهيكل الدولة، في اطلاق العنان لموجة عنف تحت مسميات الجهاد والتحرير ومقاومة الغزو الثقافي والعسكري، لتتمايز خطوط صدع شديدة داخل النسيج المجتمعي، عبرت عن نفسها بولادات حزبية وميليشياوية وفصائلية، تتقاتل على السلطة، بذريعة طرد المحتل وافشال مشروعه في بناء الامة على مقاساته، فيما انغمست غالبية هذه القوى في فساد مالي واداري وتنافس مريع على استثمار الفرصة، وتحويل الدولة إلى غنيمة حزبية وشخصية ومشروع للاستقواء.
بعد سنوات من التلبيس الشعاراتي واختلاط المفاهيم والمشاريع وفوضى الأفكار، تبدو اللوحة الاجتماعية اقل سوريالية واخف حدة مما سبق، لكن البناء الاجتماعي صار فريسة أخلاق المغالبة والانحدار نحو عدم الانضباط والالتزام، وتهميش الدولة ومؤسساتها وقوانينها، لصالح العشيرة والطائفة والحزبية المنغلقة والرؤى الدينية المتصلبة، تبدو الدولة الخاسر الأكبر من كل ما جرى، اذ لم تعد هي المحتكر الوحيد للسلاح والعنف الشرعي، ولم تعد قادرة على الدفاع عن هيبتها امام تزايد نفوذ العشيرة او التشكيلات والمؤسسات، التي تتدرع بالدين وتبني شرعيتها منه، ومن مؤسسته العتيدة، ولم ينجح اعتدال رأس المؤسسة الدينية وحكمته (المرجعية الدينية الشيعية العليا) في كبح الاستغراق المتزايد في الطقوسية الاجتماعية والحزبية المسلحة، لصالح قوة الدولة ومؤسساتها، لتكون قادرة على أداء وظائفها وممارسة أعمالها لخدمة المواطن، وبقيت الدولة اضعف من المجتمع، رغم الخشية من العودة غير المحمودة إلى حالة القوة التي تصادر بها المجتمع، كما سبق لها ذلك في المرحلة البعثية سيئة الصيت.