جمال العتابي
إذا كان لنا أن نتناول بمثل هذه اللمسات النقدية تجربة الفنان خالد القصاب، فذلك يعني بأننا إنما نجري في تيار الزمن من مبتدئ حركة التشكيل في العراق ونعود إليه في استذكارات عذبة من تاريخ الرسم الخمسيني لـ "جماعة الرواد".
ما الذي يعنينا هذا التاريخ الذي قرأنا عنه بما يكفي من إشارات، أو ربما البعض القليل من عايشه؟ نقصد بذلك أن تجربة الفنان القصاب ارتبطت بالمراحل التأسيسية للفن المعاصر في العراق، وكانت له منذ البدء علاقات واسعة مع أقطاب الفن الرواد وفي مقدمتهم جواد سليم وفائق حسن واسماعيل الشيخلي وعيسى حنا وحافظ الدروبي وغيرهم.
هو ذا عبير الماضي إذاً الذي يذكرنا بالزمن الذي تشكلت فيه أول المحاولات والمشاريع الفنية الصغيرة في حقل التشكيل العراقي، وسرعان ما يكتشف الفن طرائقه الخاصة للتوازن مع نقلات العصر وتحولاته، وهو ما حصل في عام 1950 حين ساد الاعتقاد بين عدد من الفنانين الشباب بأن تكوين "جماعة" يعني إيجاد حلقة وصل تربط الفن بالمعرفة، كما تخرج في الوقت نفسه بصيغة جديدة تلتمس فيها قوة الفعل الجماعي المشيد على قاعدة العمل المشترك والمستجيب لنقد الذات، وهذا ما جرت عليه (جماعة الرواد) وما أخذت به على نفسها طيلة وجودها بفعالية داخل
المشهد.
إن ظهور هذه الجماعة كمجموعة فنية تتجاوز مرحلتها الطفولية الأولى في الأربعينيات إلى مرحلة شبابها جاء معبراً عن موقف جديد اقترن بالدعوة إلى الرسم بأساليب مطلع القرن العشرين ومنتصفه في أوربا، كما يذكر ذلك شاكر حسن آل سعيد في كتابه (فصول من تاريخ الحركة التشكيلية في العراق ج1).
لقد عثرت هذه الجماعة على منظورها الخاص، ليس من خلال الفلسفة، بل من خلال المحاولات التشكيلية المتّسمة بطابع "التجريب" وهكذا فقد ارتمت منذ البداية في أحضان الطبيعة، ومارست الجماعة فعلاً ارتيادها بساتين "الجادرية" استغراقاً وتماهياً مع المشهد الطبيعي.
كان القصاب يحلم أن يكون رساما، أو مهندساً معمارياً، ولعدم وجود هذا الاختصاص في جامعة بغداد، مطلع اربعينيات القرن الماضي، اضطر للتقديم إلى كلية الطب، فتخرج طبيباً رغماً عنه، إلا أن سنوات الدراسة الأولى كشفت عن قدراته في الرسم، وتعلقه فيه، وتعرّف حينذاك على الفنان فائق حسن الذي أحسن توجيهه ورعايته، ومن خلاله تعمقت علاقته بالفنانين الرواد، وشارك في معارضهم، وكان منزله قد استقبل أول معرض للرواد شارك فيه بعدد من الأعمال.
بعد هذه الانعطافة التاريخية، اكتسبت أعمال القصاب شيئاً من خصوصية الارتباط الفني بتاريخ تلك الجماعة، وما نجد في أعماله من ملامح ذات جذور مدرسية - انطباعية، لا يبعده كثيراً من احتفاليات الجماعة أيام كانت البساتين وحقول ضواحي بغداد مسرحاً لنشاطاتها الدائبة، لذا استمر خالد في العمل من دون رفض للاقتناع بذلك القانون الذي يعتبر الطبيعة هي هبة الله للفنان.
وهو يعلم بما يملكه من ثقافة فنية عالية، ان ما يفعله الآخرون حينما بدأوا بتحطيم الأشكال والبحث عن أبعاد جديدة من خلال تركيبات واستبطانات مبتدعة، إنما يحمل في طياته مخاطر واحتمالات لا يجد أنه مدعو للخوض فيها، ما دامت الحركة تأتي ذاتها يومياً بالجديد المضاف إلى القديم أو الابداعي الذي يقصي مألوفاً في الساحة الفنية.
إن أمانة التقييم التاريخي تقتضي أن نضع الاشارات الدّالة بموضوعية لتجربة القصاب التي تميزت باقتناص اللحظات الجميلة في الطبيعة والمحيط والحياة بكل معناها، فهو لا يرسم من أجل قتل الوقت أو للهواية فحسب، بل يرسم للتعبير عن رؤيته في معنى الحياة -أعني به- التعبير الأمثل عن مسراته الداخلية وسعادته الدائمة، بملوناته التي تنقلنا بالإيماء أو الإشارة
الخفية إلى المعنى المطلق لهذه الطبيعة.
نقول استطاع الفنان خالد القصاب أن يذكر لنا ببساطة أن عالمه الأثير ما هو إلا جنة سحرية هيأت للمشاهدة الشعرية، لذا فقد حمّل ريشته أكبر قدر من طاقة اللون، وأكد على النور الوهاج في حال، والظل البنفسجي العميق في حال أخرى، ناثراً ما بين الألوان: نقاط الفضة الخالصة، ولمعان الصدف المشع، وقطرات الذهب المشع، غير ناسٍ ما يحمله الطين العراقي من لون ترفعه إلى قمة الرؤية يقظة الخضرة الماثلة، وتطامن البيوت وهيبة الجبال والوديان والنخيل والأنهار، حتى لكأنها تستعيد في أذهاننا ما بين قوانين الطبيعة الصورية، وبين التنوع اللامحدود للظواهر من علاقات.
إن ما تحقق خلال تجربته الفنية تضع الفنان القصاب إلى جانب أبرز الفنانين العراقيين المهتمين في رسم الطبيعة وبلورة واقعية تفصح عن أعماق رسامها، أي عن رؤيته وتكوينه النفسي وبالتالي عن أسلوبه المميز في توزيع اللون والكتل ورسم الخطوط والحركة.
وفي ضوء آراء النقاد يحيل البعض منهم أسلوبه إلى اسلوب الرسام الانطباعي الفرنسي " بول سيزان" ويؤكد الناقد والروائي جبرا إبراهيم جبرا هذه الحقيقة في اشارته إلى استرسال القصاب في استقصاءاته للطبيعة، ليضيف كل مرة عمقاً جديداً إلى رؤيته.
لم تقتصر حياة خالد القصاب (1924-2004)على الرسم فقط، فهو إلى جانب كونه طبيباً جراحاً ماهراً، واستاذاً للجراحة في كلية الطب، كان القصاب عنصراً فعالاً ونشيطاً في المشهدين الفني والاجتماعي، وله اسهاماته المتعددة والمتميزة في الحراك التشكيلي والمشاركة المعارض، وتأسيس الجماعات الفنية، فكان أول سكرتير لجمعية(الفنانين) التشكيليين العراقيين فيما بعد، إثر أول مؤتمر تأسيسي لها عقد في النادي الرياضي الملكي في الاعظمية، أواخر عام 1955، وانتخب المعماري محمد مكية رئيسا للجمعية، وأكرم شكري نائباً له، والأعضاء كل من: اسماعيل الشيخلي، جواد سليم، فائق حسن، قحطان المدفعي.
صدر للفنان القصاب في عمّان كتابه "ذكريات فنية" عام2007 الذي تصدرته مقدمة الكاتبة والناقدة مي مظفر التي جاء فيها:
"يغوص القصاب في كتابه إلى أعماق ذاكرته ويمسك بخيوطها فيستعيد ملامح أحداث عايشها بملامسة ساخنة.
إنه لا يذكر ذاته إلا من خلال الآخرين، فالجماعة، كل فرد فيها، هم أبطال هذه المذكرات، والوطن الذات الطاغية.
تتناول المذكرات نشأة فنون الرسم والنحت والخزف، كما تتحدث عن العمارة، وبذلك يضعنا أمام صورة متكاملة لحقب من تاريخ العراق الحضاري.
يلوذ القصاب بذاكرته هارباً من سواد اللحظة، محاولاً استرجاع جانب من وقائع تؤول للمحو، فأعطانا درساً بالتوثيق والروح الإنسانية المتسامحة لزمن لن يعود.
كانت بينه وبين الفنان الراحل ناظم رمزي مراسلات، مكتوبة بعاطفة حميمة تذهب إلى الخصوصيات والمزاح، واللمحات الطريفة نشرت في كتاب رمزي "من الذاكرة"، تلك الرسائل بينهما، سردية تكشف عن ذاتين انتهيتا إلى نفس المصير.. الموت بعيداً عن الوطن.