عبد الهادي مهودر
كل شيء في مدينة الموصل أصبح بمثابة وثيقة تاريخيَّة وشاهد على العصر، الأحياء والشهداء والجماد والشجر، وجدرانها التي ما زالت تحمل بصمات داعش، ولكل مكان ورجل وامرأة قصته الخاصة من أيام احتلال المدينة، وأهم تلك القصص هي التي لم تكتب بعد، لكنك تسمعها من حديث طفل يبيع المناديل الصحيّة ويشرح لك أسباب تركه الدراسة مع آلاف الأطفال، في هذه المحافظة الأعلى بنسب التسرّب الدراسي وآمال العودة الى الدراسة، ومن شباب عاشوا تلك الأيام القاسية، ومن قصة شارع الخلافة الذي قصّت داعش شريط افتتاحه، ومقدار راتب الجندي في دولة الخلافة الذي لايتجاوز المئة الف دينار، وفضائع يشيب لها رأس الطفل لقصص التركمان والأيزيديين والنازحين، وكيف كان سعر خروف الأمس بسعر كيلو لحم اليوم، وماذا حصل في إعدادية الشرقية للبنين الواقعة في الموصل القديمة (بنيت عام 1905)، ولماذا لا يعود إليها التلاميذ المسيحيين والأيزيديين حتى اليوم، وحكاية مدير الإعدادية الأستاذ مثنى وهو بحد ذاته وثيقة تاريخيَّة تمشي على الأرض، وكم كتاب احرقوا في جامعة الموصل وحدها؟!.
وتكشف لغة الأرقام والحقائق عن فداحة الفاجعة التي أصابت هذه المدينة العريقة الناهضة التي لم تمت لكنّ جراحها لا تندمل من دون مصارحة ومصالحة ونظرة الى المستقبل وإعادة بناء للإنسان وترسيخ السلم المجتمعي بين جميع مكوناتها ، وما بين آخر زيارة في أواخر ايام تحريرها عام 2017 وزيارة نهاية هذا الأسبوع نحو سبع سنوات، ولم نسمع أن (دولة الخلافة) وقبل وصولها الى سدة الحكم بسنوات كانت تمنع الطلاب المسيحيين والأيزيديين وبقية الطوائف من دخول الجامعة وإغتالت بعضهم على طريق الجامعة الأحمر بدمٍ بارد، وبعد وصولها أحرقت (مليون كتاب) في جامعة الموصل فقط، وإذا كان جيش المغول "بنوا اسطبلات الخيول وطولات المعالف بالكتب عوضاً عن اللبن" ورموها في نهر دجلة، فإن هولاكو الموصل تجاوز العدد أضعافاً مضاعفة، لكننا نتحدث منذ عام 1258 ميلاديّة عن تحول مياه نهر دجلة الى لون الحبر الأزرق ولم يطرق أسماعنا، في زمن إهمال الحقائق والوثائق وإنشغال وسائل الإعلام بقضايا أقل أهمية، خبر إحراق مليون كتاب في جامعة الموصل قبل بضع سنوات فقط، أما بقايا اوراق الكتب المحروقة فقد أصبحت أدلة على جريمة محرقة المليون كتاب، وحسناً فعل رئيس جامعة الموصل الدكتور قصي الأحمدي حين جمع ما استطاع منها وتحدّث عنها في المحافل الدوليَّة و ابتكر للجامعة هديّة تذكاريّة خاصة تمنح للزائرين، عبارة عن بقايا ورقة من كتاب محروق، والاحتفاظ ببقايا الكتب النادرة المحترقة في مكتبة الجامعة الحديثة التي ولدت بحلةٍ جديدة، وفي نينوى قصة أخرى لسهلها، ومظلمة كبيرة للعرب أيضاً، ضاعت في ضجة الحديث عن مظلوميات الأقليات.. وللحديث بقية تملأ مليون كتاب.