جابر السراي.. موحيات الرسم الملحميّ

ثقافة 2024/03/19
...

 صلاح عباس


منذ منتصف العقد التاسع من القرن الماضي، والفنان جابر السراي يواكب الرسم بالطرق النمطية والتقليديّة، محققا سلسلة طويلة من لوحات واقعية واستشراقيّة يراعي فيها الأسس السليمة في الرسم، مثل دراسة المنظور المرئي، الأفقي والعمودي، والتحسس بالمسافات المكانية، البعيد والقريب، وكذلك الانتباه لمصادر الأضواء وانكسارات الظلال على الأشكال والسطوح، ومن ثم ايلاء أهمية لوضع التصميم الشكلي المنسجم عبر تفهم أسس التصميم السليمة، وتوظيفها بما يؤمن أعلى قدر من التأثير البصري والحسي ويسمح للإنشاء التصويري بأخذ الاهمية كما ينبغي. 

وكما هو معروف في الرسم الواقعيّ بأنه فن لا يقبل الخطأ لأنه يقترن بالرؤية العلميّة والفيزيائيّة في مناهج الرسم الواقعيّ، لا يكمن في الحيثيات والاوليات التي يجب على الفنان مراعاتها مثلما ذكرنا، دراسة المنظور والأضواء وصناعة الأشكال فحسب، بل أن الأمر يتجاوزه إلى المهارات الادائية والاحترافية التي من شأنها الارتقاء بمستوى الفنان وابداعه.

وقد دأب السراي بشكل يومي وبلا انقطاع على الرسم بالمواد الخام المختلفة عبر الدرس الاكاديمي وسياقات تحقيق المشابهة والانتباه لقيم المضامين المتداخلة في بنى اللوحات منذ بداياته المبكرة، وبعد مضي أكثر من عشرين عاما من الرسم الواقعي على وفق سياقاته المعتادة وجدنا الفنان يتخذ موقفا جريئا متعلقا بهجر ومغادرة المنهج الواقعي بحثا عن حلول منطقية تسمح له بإعادة ابتكار ذاته ونبذ الفنون الواقعية والمتعلقة بإظهار العضلات الفنية والتعايش مع رغائب الآخرين والانخراط في سوق الفن.

لقد حاول السراي إعادة ترتيب اللعبة الفنية، والاهتمام بتحقيق الجدوى من الرسم، فكيف يكون ذلك؟

إن الفنان غادر البلاد، وعايش الغربة، وتأقلم مع الحياة في المهجر، وأن طبيعة الحياة في الولايات المتحدة الامريكية سمحت له بالعيش في أمان وحرية، وبذا فان دائرة معارفه اتسعت واطلع على مقتنيات المتاحف وتعرف على تاريخ الفن العام، بيد أن المخزون في ذاكرته أسس في رأسه قاموسا متسعا من المفردات والوحدات الصورية والاشارية، بحيث إن زخم هذه المفردات أخذ بالتحرر ليرتسم على سطوح اللوحات. 

ولا نستغرب أن وجدنا في اللوحة الواحدة اكتظاظا من المفردات البشرية والخليقة والرمزية، وحتما سيكون هذا الزخم الكبير مسوغ، لاسيما إذا عرفنا أن الفنان يتعايش بصدق مع تلك المفردات كتراكب أشكال الخيول أو الكلاب أو النساء، لأن هذه المفردات تقفز من حيز الذاكرة لتلتصق على سطح اللوحة وتأخذ مكانها الصحيح.

إن المتراكم المعرفي وما يحفل به مخزون الذاكرة مهد للفنان بأن يكون انتقائيا ونوعيا ولا يهمه الكم والعدد، وعندما يرسم مفردة صورية فهي لم تأت من حيز الفراغ، بل أن لها قصدا وغايات حسية تحتمل القراءة على انحاء شتى، ومفردات اللوحة وصناعة أشكالها المختلفة ما هي إلا نصوص صورية يقوم الفنان بتأليفها واطلاقها، لا لغاية محددة، وإنما لتأليف نص مفتوح على أفق الرؤية، اخذا بنظر الاعتبار سبل المواصلة التي تكفل حقوق المواكبة والانسجام مع روح العصر والمستجدات في فنون الرسم العالمية. 

واللافت للانتباه بأن السراي يلجأ دائما لانتخاب المفردات والمواضيع ذات الطابع الملحمي أو القصصي والسردي، بما يؤمن قدرا عاليا من التهذيب والالتزام، وكذلك لا يخدش مشاعر الاخرين، ولا يؤثر على بصيرتهم بشكل سلبي، فتأتي المضامين متناسقة ومنضبطة لتحقيق وحدة الانسجام الكلية أو الموضوعية.

إننا الآن نقف في محترف الفنان المزدحم بالأعمال الفنية، ونتطلع بشغف للوحات المنفذة بمواد خام مختلفة، كالزيت والاكريلك والكواش والفريسكو والتمبرا والمائية وأنواع من الاحبار والألوان النفاثة والفحم وغيرها. 

ثمة اسئلة ضمنية تتعلق بخصائص المواد الخام وتنوعها وسبل توظيفها، بحيث تتبين الفروقات الفنية في الأداء التقني، ولابد لنا معرفة أن لكل مادة خام مواصفات فريدة في التأثير البصري، كما أنها تقدم موحيات متباينة من شأنها اغناء اللوحة واكسابها قيما فنية وجمالية مختلفة، وتعريف المواد الخام الملموسة لا يتخطى كونه وسيطا ناقلا لما يعتمل في ذات الفنان من شوارد ومختلجات ورؤى ومواقف وتخيلات، بيد أن التنوع في استخدامها يمنح الفنان مساحة أكبر لمزاولة حريته وهذا هو ملخص المحتوى الرؤيوي لجابر السراي.

الفنان جابر السراي يرسم كما يريد وكما يحلو له، وهو يقصد بكل ما يريد، يرسم رغائبه وتصوراته للوجود على نحو يومي ولكنه ليس خبري، ربما نبصر لوحات تحمل بين اجزائها مواضيع سياسية متعلقة بزمن العولمة والسياسة الدولية الجديدة، ولعلنا نطالع انشاءات تصويرية تقفز من بين السنوات السحيقة وترتمي في احضان اللوحة، مثل حالة اصطياد للزمن المغادر، أو نشاهد نسوة بنصف عري وخيول هلعة مكتظة تنتظر مصيرا مجهولا، فتبدو تلك المفردات الصورية والانشاءات التركيبية مرسومة على نحو ملحمي متتابع يأخذ مدياته الأبعد عبر التشخيص تارة، والتمويه تارة أخرى، غير أن الأهم في كل هذه التفاصيل هو طريقته الادائية التي تحافظ على طراوة الخطوط ونقاء الألوان والمواد الأخرى المتداخلة في بنية اللوحة.

إن اللوحات والأفكار المرافقة لها تتناسل الواحدة عن الأخرى، وكأن تحقيق الرؤى هو مشروع مستدام خط يؤدي لخطوط، وتركيب شكلي يوصل لتراكيب مختلفة، ووحدات صورية ومفردات إشارية تحقق الالهام لعالم متباين آخر، وهكذا هي الاستمرارية والتواصل اليومي. وعندما يقف الفنان جابر السراي، أمام لوحته البيضاء فأنه لا يرسم بالألوان، وإنما يجري حواراً صريحاً مع السطح الأبيض لغرض فض أفواهه واستخلاص ما يجيش بخاطره، وبذا فأن أدوات التنفيذ تتحرك على المواد الخام الملموسة، وتلاعبها شيئا فشيئا لتتحرر المضامين القابعة في سره.