عادل الصويري
يقسم علم النفس قضية جلد الذات Self-abasement إلى جلد ذات مادي ومعنوي، والنوع المعنوي هو عدم جدوى الحياة وغيرها من الهواجس السلبية التي يصاب بها الإنسان؛ نتيجة حدث معين يولد إحباطاً يصل بالإنسان إلى درجة الاستئناس والتمتع بالحديث عن يأسه وانكساراته، وكأن الاحباط يشاركه زاده وبقية الفعاليات التي يمارسها في الحياة، بحيث يشعر بفقدان كبير إذا غاب عنه الاحباط.
وهوس التعايش مع الإحباط نراه حاضراً فاعلاً في المشهد الثقافي بصور مختلفة، تبدأ من النصوص الأقرب إلى العدمية غير الفنية، إلى عملية طرح الجدل الذي يضمر الانقياد إلى أفكار تلاشت وليس بوسعها الصمود أمام الواقع وتحولاته.
ومن المهم دراسة التأثيرات التي تحدثها عملية جلد الذات على قضية إنتاج الأفكار، ولا يخفى أن أكثر التصدعات التي تواجهها البشرية بصورها السياسية والاقتصادية والاجتماعية؛ ماهي إلا قناع لصراع أفكار، وكل فكرة تحاول أن تثبتَ فاعليتها وتفوقها على الفكرة المنافسة. وقد تباين مستوى التأثير النخبوي على المجتمع بحسب الظروف المرحلية التي تفرض واقعها الذي ينعكس حتماً على المزاج الفكري العام، والذي قد يتعرض لهزات وانكسارات تحدث تشظياً وانقساماً في صفوف المثقفين، بحيث يعيشون في عزلة انهزامية تلقي بظلالها على الواقع المجتمعي وشرائحه الأخرى.الأخطر في موضوعة الفكر الانهزامي، وانهزام النخب الثقافية؛ يكمن في أن هذا الانقسام سيولد حالة من التعددية السلبية المرتكزة على تابعية إيديولوجية، حيث الانقياد الأعمى والتبعية المحضة لعناصر الأدلجة. هذه التبعية ستكون النتيجة المنطقية لاستفحال ظاهرة تضخيم الأخطاء، والتأقلم على الضجر، وعدم الإيمان بالاستمرارية، وتنامي المشاعر السلبية التي تُنَمّي الفشل، فتهرب منه بدلاً من مواجهته.
ومن المناسب الاستشهاد بتعدد الأنماط الفكرية التي ظهرت كرد فعل مأزوم وانهزامي بعد نكسة حزيران 1967 التي ألقت ظلالاً من التشاؤم الكثيف، وأنتجت المزيد من الاحباط والانكسار. فقد ظهر بعد النكسة بفترة قليلة نمط يسمى بـ (التراجيديين)، وقد غلب النقد الراديكالي على سلوك هذا النمط الفكري لدرجة المطالبة بنسف التراث كاملاً، مع الإيمان باليأس من أي مستقبل، وعدم وجود أي أمل بالإصلاح، ويُعد هذا النمط الفكري أشد أنواع الأنماط انهزامية. وفي مطلع الثمانينات من القرن العشرين الماضي ظهر نمط آخر تحت مسمى (المثقف البديل أو البدائلي) وهذا النمط طالب بإعادة تقييم النظريات النقدية السابقة التي لخصت المشكلات المجتمعية، ورأت بإمكانية تقديم الحلول، لكن النجاح لم يحالف هذا النمط؛ لأن آثار الانكسار والهزيمة كانت لازالت مسيطرة على الذهنية لدرجة استحالة إيقاد شمعة في مساحة العتمة الفكرية الكبيرة.
وثمة نمط ثالث، وهو نمط (المقاولين الثقافيين)، وأصحاب هذا النمط يحترفون التنظيرات الجاهزة، والمفصلة على المقاسات السلطوية والحزبية مقابل بعض الصفقات والامتيازات التي يسيل لها اللعاب الثقافي، حيث لا وقت للتفكير بالمبادئ والقيم والأخلاق.
وبمقارنة بسيطة بين هذه الأنماط الثلاثة؛ نجد أن النمط الثالث هو المتفوق وهو الحاضر الفاعل، حيث صار للفكر سوق يُروج ثقافياً لمشاريع إيديولوجية. ولم يقتصر السوق الثقافي على المشاريع المحلية، بل تعدى ذلك بانفتاحه على مشاريع السلطات في عدة بلدان كما حدث مثلاً مع المفكرين الذين روَّجوا للحرب العراقية الإيرانية، حيث كتب المفكرون وأسهبوا في تمجيد المشروع القومي الضيِّق لهذه الحرب التي أبادت الآلاف من البلدين. بينما نراهم صمتوا تجاه قضية هي في صلب القومية التي آمنوا بها، كصمتهم في قضية الاجتياح العراقي للكويت عام 1990.
والحال نفسه ينطبق على مفكري الألفية الجديدة، أو مفكري مرحلة ما بعد الربيع العربي الذين تماهوا مذهبياً مع مشروع الحرب على اليمن، بينما نرى صمتهم المطبق تجاه ما يجري في غزّة.
ولا شك أن مثل هذه المواقف التي تعتبر مواقف للمساومة، وأمام تراجع النمط الفكري الواقعي، وتخبط النمط التراجيدي الذي صار صدى لأفكار بعيدة عن واقعه؛ فإن أكثرية الشرائح المجتمعية ستكون هي الأخرى صدى للنخب التي اشترتها السلطات، فتتحقق بذلك حالة الاستلاب الحضاري والثقافي، وانعدام الطاقة الايجابية، وفقدان الثقة بالنفس وعقدة النقص والانهزامية تجاه الثقافات الأخرى، لدرجة التابعيّة المقيتة.