رنا صباح خليل
إحدى أهم المسائل التي تشغل الكاتب والقارئ معا في جميع الأوقات، وفي جميع الثقافات مسألة الجمال وإن كان له مقياسا محددا إزاء موضوعة القبح بوصفها نقيضا له، لأن معظم الناس يعتقدون بسذاجة أن الفن يجب أن يتعامل فقط مع ما هو جميل، باستخدامهم لمفهوم الجمالية من أجل الافصاح عن ما هو جميل. فأن الفنانين والأدباء من حيث المبدأ لا يتساءلون عن كيف يمكن للفن والادب أن يكونا ذا طابعين غير جماليين، وكيف يمكنهما تأكيد شغف الإنسان بكل ما هو مثير للاشمئزاز، من أجل أن يتغنى به كما لاحظ بعض الفلاسفة ذلك، ولربما افلاطون هو أول من لاحظ مسألة الشغف بكل ما هو مثير للاشمئزاز. وهذا ما نراه في أدبياتنا الكثيرة خاصة ما يتناول منها موضوعات الحروب والانتهاكات الجسدية والأوضاع القاسية إنسانيا، وما نجده في رواية «الامريكي الهادئ» لجراهام جرين التي ترجمها عن الانكليزية شوقي جلال ومحمود ماجد. إنها تتحدث عن الاحتلال الفرنسي للفيتنام وتدور أحداثها على لسان أحد شخوصها وهو «فاولر» المراسل البريطاني المحنك والساخر الذي تقع على عاتقه مهمة تقصي قضية مقتل المبعوث الامريكي «الدين بايل» ومن ثم تدور على لسانه تفاصيل معرفته به والكشف عن علاقاته وتفصيل دقيق عن صفاته والاسباب والدوافع المرجحة لمقتله وعن طريقه نتبين أن «الدين بايل» شاب مثالي أرسلته واشنطن في مهمة غامضة إلى الفيتنام، حيث يحارب الجيش الفرنسي الفيتناميين وبينما تؤدي سياسات «بايل» حسنة النية إلى إراقة الدماء.
يجد (فاولر)، أن بايل من المستحيل أن يقف ويراقب في كل حدث سياسي أو موقف بين الطرفين المعاديين من دون أن يحرك ساكنا ويكون له دور واضح فيه، لكن دوافعه للتدخل مشكوك فيها، سواء بالنسبة إلى الشرطة أو إلى نفسه؛ ذلك أن هذه الرواية مليئة بالمؤامرات والمكائد المضادة وفيها إدانة صريحة للتدخل الأمريكي في الفيتنام إلا أنها في الوقت نفسه تعد رواية مهمة عن الحب والفوضى خاصة أن هناك حبا قائما وقعا فيه الشخصيتين الرئيستين في الرواية وهما فاولر وبايل لامرأة واحدة تدعى فونج. وهذه أولى مسلمات القبح في الرواية من ناحية الفكرة التي استطاع جراهام جرين تسويغها لنا بطريقة فنية تعكس التعددية الذاتية لشخصية واحدة جاذبة وقد نجح أزائها في بث روح الجمال لدى المتلقي وهو يتطلع إلى شغفها ببايل ومن قبله فاولر، وحصل على استجابة القارئ باستخدام لغة تقليدية لكنها مكرسة للفن، لأنها تعزى إلى قيمة جمالية افتراضية تحكمها استجابة عاطفية وفكرية.
ربما تحديد القبيح أكثر صعوبة من تحديد الجميل، وغالبا ما كان الأول يُحدد من خلال مقابلته للثاني، وهناك فكرة تتضمن رفضا تاما للقبح غير أن لأرسطو موقفا مغايرا وقد جادل منافحا عن مكان وصف وتصوير القبيح في الفن، طالما كان ذلك ضمن عملية تزيين وتجميل له وبناء على ذلك فإن الأشياء القبيحة في الطبيعة التي يمكن أن تثير فينا الرعب في الواقع يمكن أن تصبح مقبولة وحتى مصدرا للمتعة وهي مرتدية قناع الجمال ومن ذلك ما جاء في صفحة (88) من الرواية: «قال الملازم.. سنذهب لنرى، وسرنا وراء الحارس الذي اتخذ. طريقا عبر ممر يفصل حقلين وتغطيه كميات كبيرة من الوحل. على بعد عشرين ياردة وقع بصرنا على حفرة ضيقة، وألفينا بداخلها ما كنا نبحث عنه؛ امرأة وطفلا صغيرًا. كان واضحا تماما أنهما ميتان ثمة جلطة دم صغيرة تغطي جبهة المرأة، وربما كان الطفل نائما. في السادسة من عمره تقريبا، راقدًا كجنين في رحم أمه، وركبتاه الناتئتان الصغيرتان مطويتان إلى صدره. قال الملازم: يا لسوء الحظ. انحنى وقلب الطفل. كان يعلق حول رقبته أيقونة مقدسة، وقلت لنفسي: لم تفعل التعويذة فعلها. كانت هناك تحت جثته كسرة خبز وقد قضم منها لقمة. وفكرت: إنني أكره الحرب».
وهنا يكرس النص طاقاته لاستثارة كراهيتنا للحرب الذي يعد رمزا لنشر الخوف بمجرد حضوره في الأذهان، ومع ذلك فإن أدوات الاستعارة له جاءت ممتعة عند القراءة، لأن الاتجاه لمنح الأدب شرعيته من خلال طريقة تنفيذه، ومن أجل تحقيق دقته تعني ضمنا وجود عدة صيغ للإدراك الحسي الجمالي. وهذه الصيغ يمكن أن تعمل منفردة في حضور أي عنصر آخر، لذلك يمكن أن يظهر موضوع الحرب القبيح في لوحة جميلة أو مقطع أدبي باهر من دون أن يؤدي ذلك إلى خفض قيمته، وفي علم الجمال المعاصر ثمة قول يثبت أن أي عمل فني قد يثير مشاعر جمالية سلبية وذلك يعود الى المواضيع القبيحة التي يصورها، لكن ما نقيمه هو التمثيل أو التصوير الفني المبدع لمسألة قبيحة، وهذا يعني أن ما نقيمه هو ليس القبح ولكن التمثل أو التصوير الفني الجميل للقبح(1).
وفي موضع آخر في صفحة (88) من الرواية «قال الملازم بفظاظة: هل رأيت ما فيه الكفاية؟ كأنني المسؤول عن هذه المنايا، ربما ينظر الجندي إلى المدني على أنه الشخص الذي يسخره للقتل، يضع له الإحساس بذنب جريمة القتل في مظروف يحتوي على راتبه الشهري ثم يهرب من المسؤولية. عدنا إلى المزرعة وجلسنا ثانية فوق التبن يلفنا الصمت، بعيدا عن الرياح التي تبدو كأنها حيوان بري عرف أن الليل قارب على الهبوط. الرجل الذي كان يفتش بين القاذورات جلس ليقضي حاجته، والآخر الذي قضى حاجته كان يفتش بين القاذورات. وسرحت بأفكاري، ربما ظنا أنهما بمأمن فخرجا من حفرتهما في تلك اللحظات التي سادها الهدوء».
وتجدر الاشارة هنا إلى ما قاله جورج هاكمان في كتابه «التجربة الجمالية: الجمال والابداع والبحث عن الكمال» في أن القبح هو استثارة أوهام اللاوعي وتسليط الضوء عليها، تلك الخيالات والأوهام التي تغير معنى التجربة الجمالية بطريقة تصبح فيها الخصائص الشكلية للتجربة - قالبها ونسيجها ولونها هي ما نواجهه بوصفها مصادر لأكثر المشاعر إثارة للقلق والنفور» (2).
والغالب على النص السابق رغم ما توفر له من وصف هادئ أنه مشحون بعدم الاطمئنان والسخرية من وضع مفروض على الجندي لما يتقاضاه لقاء قيامه بالقتل، ومن ذلك نستنتج أن ارساء مفهوم المقولة الجمالية تنظم الأشياء استنادا إلى معيارين في هذه الرواية أولهما الخصائص الحسية التي تدعم مظهر الأشياء الخارجي، وثانيهما رد الفعل الذي تستثيره هذه الاشياء في المتلقي، لذلك علينا تقصي الهدف في وجوب العثور على العوامل المتغيرة التي تحدد القبح بوصفه مقولة جمالية، تحقيقا للمعيارين معا.
****
1ـ نسبة إلى «كانط» أهم الفلاسفة الذين كتبوا في نظرية المعرفة الكلاسيكية.
2 ـ مجلة الثقافة الاجنبية، العدد الثالث 2016، ص47، دار الشؤون الثقافية العامة.