كاظم غيلان
-انطباع اول-
صدرت عن دار الشؤون الثقافيَّة العامة مؤخراً الأعمال الشعريَّة للشاعر جليل حيدر بواقع 424 صفحة من القطع الوسط، تضمنت مجموعاته الشعريَّة بدءاً من "قصائد الضد 1974" حتى "أسد بابل 2018" .
تصدرتها شهادات ودراسات لشعراء وكتاب بارزين "ادونيس، فاضل العزاوي، عبد القادر الجنابي، محمود البياتي، ماريانا هيدنبر، زاهر الغافري، محمد مظلوم، حاتم جعفر، فاضل ثامر".
تجربة جليل حيدر في إبداعه الشعري رافقت حياته بمجمل تفاصيلها في منتهى الحميميَّة والوفاء، بل وحتى حياة مجايليه الذين ثبت إهداء أعماله هذه لهم بوصفهم "عصابة مقهى المعقدين" في إشارة لتلك المقهى المثيرة للجدل التي شهدت صخبهم وحواراتهم وكانت واحدة من أبرز مقاهي بغداد الثقافيَّة في العقد الستيني، والتي ظل جليل شاهداً نبيلاً على وقائعها وايقاعاتها الصاخبة منها والهادئة.
في شعر جليل يقف الوطن بكل تفاصيله التي عاشها حيث القمع والاستلاب المستمر، والتطلع نحو حرية "ضاقت حلقاتها" وحين استكملت فرجت بـ (منفى يلد منفى)، انه الحلم الذي نحر من الوريد إلى الوريد صبيحة يوم دام في الثامن من شباط 1963 وامتدت حلكته الى يومنا هذا حاملاً خيبة تنتقل رايتها من جيل إلى جيل ومن وطن إلى منفى إلى وطن مفترض.
المنفى لم يكن سعادة بل نقيضها، والأحلام - كوابيس، والرايات نفاق بمختلف ألوانها، والأماني اضغاث احلام، وليس سوى الشعر فهو المنقذ الساكن في الرؤوس.
شاعر بغدادي جليل يحمل أيَّان اتّجه وأينما حلَّ معه نذور الامهات المتأملات لحظة غروب الشمس على ضفة خضر الياس، ومكتبة مكنزي، وشارع النهر.
كيف لهذا البغدادي ان يتخلى عن الشناشيل ومقامات متصوفة بغداد وشارع الرشيد، كيف تبرح ذاكرته ايقاعات المقام العراقي وحلقات الذكر والمربعات وطقوس طفولة كرخيَّة الهوى؟:
خلف حزني
شبح يترقبني
خلف جلدي
مساكن أو غرف باردة
وخلف المراكب،
تفرُّ المياه، نداء أسير يهددني
خلف أفق يضيع
كلُّ سرٍّ يشيع
يا جليل بن حيدر
تستر، ونم في مداخن نفسك
من قصيدة (أسرار)
في عالمي جليل الخاص والعام تفرّد أخذ لون خصوصيته البيئيّة والثقافيّة مستنداً لمدارك وعي حسّي أحاط مديات تكونه الشعري المستمد من جغرافيته الحياتيّة التي يقبض عليها كمن يمسك لحظة تحاول الهروب، وهذا شأن الشاعر في حراسة موهبته إلى جانب حراسة ذاكرته التي تصدت لرصاص وشظايا واقع يتنقل من مرارة إلى اخرى:
نحن شعب الشاكو ماكو
شعب التراخوما والدبابات والنفط
شعب البامية والسراديب
زائداً سورة ياسين
ناقصاً الأقليات
من سوق الغزل إلى بوتار المحية
ومن باص رقم ٤ وظهيرة الجنس فاضحاً يتمه
من قصيدة- طائر الشاكو ماكو-
في نظرة تأمليّة تشترط عمقها تجد اشتغالات جليل الذهنية مغايرة للسائد الشعري، العائم في فضاءات الفوضى، انه الضد - الشعري هنا الذي يقابل الضد في الموقف الحياتي النابذ لكل ما في السطح من ثرثرات، فوظيفة الشاعر رهينة ذاته بكل ما فيها من طاقة مندفعه للخلق والتجدد، فهو لقاء المتضادات في وحدة الشعر- الشعر:
لا يكفي الانتقام من ماضي البحار، بسبب سفينة مجهولة
لا يكفي السكوت للنجاة من صدمة الليل لذا
يعرف شجرة روحه العصية على العطش
والقيعان المليئة بالدمع، والحصون التي اخترقها الأصدقاء
مع فجرهم القادم
قصيدة - قاطع الطريق-
انطباع أول هذا عن كتاب جليل الشعري، التجربة التي لا تشبه إلّا نفسها.