فاضل العزاوي: كلُّ كتابةٍ حقيقيَّةٍ هي تحريرٌ للكاتب والقارئ معاً
باقر صاحب
عُرف الشاعر والناقد والروائي والمترجم فاضل العزاوي بأنَّهُ أحد أبرز الشعراء العراقيين المعاصرين، حيث رسّخ خلال سني تجربتهِ الإبداعيَّة والنقديَّة الطويلة الاتّجاه الحداثي في الشعر العربي المعاصر، وهو المنتمي البارز إلى جيل الستينات، هذا الجيل الذي وَطَّد ما يُسَمّى (الحداثة الثانية) في الشعر العراقي، التي أخلفت الرواد وحداثتهم الأولى، متمثِّلين بالسياب والملائكة والبياتي.
وُلد العزاوي( 1940) في مدينة كركوك، التي تميّزتْ بتنوّعها الديني والقومي والثقافي، فأسهمت في تغذية وعيه بقيم التسامح واحترام الرأي والرأي الآخر. تخرَّج في جامعة بغداد، حائزاً على شهادة البكالوريوس في الأدب الإنكليزي عام 1966 ، ومن ثمَّ شهادة الدكتوراه من جامعة لايبزيغ في ألمانيا عام 1983 عن( المشاكل الرئيسة لتطوير الثقافة العربية).
عمل في الصحافة في ستينات وسبعينات القرن الماضي، وأسهم في إصدار مجلّة (الشعر 69) في بغداد، وهو واحد من أربعة شعراء، أصدروا ما عُرف بـالبيان الشعري الذي أحدث جدلاً في حينه. والثلاثة الآخرون هم: سامي مهدي (1940 - 2022) وفوزي كريم (1945 - 2019)، خالد علي مصطفى (1939 - 2019)، والعزّاوي من مؤسسي “جماعة كركوك” وكانت تضمُّ الشعراء سركون بولص وجان دمو ومؤيد الراوي وصلاح فائق، والتي اهتّمت بقصيدة النثر. من إصداراته الشعرية” سلاماً أيتها الموجة، سلاماً أيها البحر، الشجرة الشرقية، الأسفار، صاعداً حتى الينبوع”، وغيرها. ومن رواياته نذكر: مخلوقات فاضل العزاوي الجميلة، القلعة الخامسة، الأسلاف. آخر الملائكة.
وهناك كتابه المهم” الروح الحيَّة/ جيل الستينات في العراق” يكشف فيه، تجربته الخاصَّة مع الكتابة ضمن سني حياته المكتنزة بالتحوِّلات، كما يسطِّر فيه “ أدق تفاصيل الصراعات السياسية والفكرية والشعرية والأدبية في العراق منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى منتصف السبعينات”. ويرى العزاوي في كتابه هذا، الصادر عام 1997 عن “دار المدى” أنَّ روح الستينيات أثَّرت في تطوِّر الوعي، على المستويين المحلي والعربي، وحتى العالمي عامَّةً، وعلى الكتّاب والمبدعين اللاحقين لجيل الستينات خاصَّةً، حيث برزت تأثيراتها – أي روح الستينيات (على نمط كتاباتهم وإبداعاتهم التي تنتمي إلى اتّجاهاتٍ جماليةٍ مختلفةٍ، تعكس هوى كتّابها قبل كلِّ شيء”: الروح الحيَّة ص9 . ويرفض العزاوي التجييل العقدي، ويعتبره فكرةً “صبيانية”، وكذلك أنَّ كلِّ عقدٍ زمنيٍّ لاحقٍ يختلف إبداعهُ عن السابق، فعلى النطاق العالمي، كان هناك ما يُسمَّى “الجيل الضائع” وهو جيل ما بين الحربين العالميَّتين، ومن ثم هناك “جيل 68”، وعطفاً على ذلك، يقترح تسمية جيل الرواد ب “ جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية”، حيث تأثَّر هذا الجيل بالروح الوطنيَّة التي تأجَّجتْ بنزوع البلدان المُستعمرة الى الاستقلال، وتأكيد هويَّتها القومية، والانطلاق نحو اللحاق بركب الحداثة العالميَّة. هذه الروح الوطنيَّة تجلَّت عراقياً بريادة أدبائه وفنانيه في الشعر والقصة والرسم والمسرح، ليستمرَّ هذا التَّجلي بإمداد الروح الحيَّة في الستينيات بنزعة الاختلاف عن إبداعات جيل ما بعد الحرب العالميَّة الثانية.
المؤتلف والمختلف
في آخر كتبه” المؤتلف والمختلف/ من قصيدة الشعر إلى قصيدة النثر”، الصادر عام 2023 عن منشورات الجمل – بغداد/ الإمارات العربية المتحدة - الشارقة، يبرز العزاوي ناقداً ومنظِّراً للشعريَّة العربيَّة الحديثة، احتوى الكتاب على مباحث عدّة، كلها جديرةٌ بالاهتمام والبحث، لكنّا ركّزنا- خشية الإطالة، على مفهومه للكتابة الجديدة عامةً، والقصيدة خاصةً، بحسب الرؤية النقدية للعزاوي، وكذلك تحوّلات الشعريّة العربيّة من قصيدة الشعر إلى قصيدة النثر.
مقدَّمةٌ عن الكتابة الجديدة
متى تكون الكتابة الجديدة تطابق جوهرها وتحقق اشتراطاتها؟ مسألةٌ أثيرت منذ منتصف ستينات القرن الماضي، فقد وُضعتْ نصوصٌ شعريَّةٌ وسرديَّةٌ تحت خيمة الكتابة المذكورة، ولكن هل طرحتْ تلك النصوص في وقتها موقفاً فلسفياً وجمالياً وسياسياً جديداً من العالم؟ نرى أنَّ فاضل العزاوي في مقدَّمة كتابه، يجيب بالنفي. فهو يرى أنَّ الكتابة العربية الجديدة وضعت نفسها في” مزلق حضاري” عندما قارنت نفسها بالاتّجاهات الطليعية في الأدب الأوروبي، لأنَّ مهمات الكتابة الجديدة عند الكتّاب العرب تختلف عن مثلها عند الغربيين، لماذا؟ بسبب الاختلاف الكلِّي بين نمطين بين المجتمعات، عدا التسليم بهذه الحقيقة، فإنَّ التجديد يغدو شكليَّاً.
العزاوي يسخر من الفكرة التقليديَّة والمنقوصة للتجديد، بأنَّهُ الاختلاف في عدد التفعيلات، الذي ساد في قصيدة الشعر الحر، إذ من الضروري أن يتواءم تجديد الكتابة العربيَّة مع تجديد البنية الكليَّة للمجتمع العربي. نحن مع إشارة العزاوي في مقدمة كتابه هذا، بأنّ هناك نوعين من الكتابة على مدى التاريخ الأدبي كله، كتابةٌ منغلقةٌ على نفسها مستعينةٌ بمعجمٍ جاهزٍ واستعاراتٍ باتت مُستهلكة. وأخرى تنظر إلى الكتابة على أنّها فعل تغيير.
لكلِّ قصيدةٍ تعريفها
يرى العزاوي، ضمن طروحاته الجريئة، بأنّهُ من الخطأ جمع الشعراء، الذين يكتبون بأنماطٍ مختلفةٍ في سلَّةٍ واحدة، عند ذاك لا تصحُّ المفاضلة بينهم، بل تصلح بين شعراء النمط الواحد، بسبب اختلاف الوظيفة الفنيّة لكلِّ نمط، بل يذهب العزاوي إلى أنَّ تغيّر وظيفة الفن، يظهر عند كلِّ شاعر، ويختلف في كلِّ قصيدة، لكنه يُقصر هذا التغيّر المستمر، الهارب عن التحديد، على القصيدة التي تتّخذ من الحريّة شكلها ومضمونها. وفوق ذلك، إنَّ كلَّ تَعريفٍ للشعر، هو إبراز وصفةٍ أيديولوجيَّةٍ له، وهي لا تصنع الشعر الحقيقي الآن ومستقبلاً، كما أنَّ جوهر الشعر لا يقينَ فيه، فهو “ يجعل قرّاءه يدخلون مدينةً، نصفها في الضوء ونصفها في الظلام” ص 18 : المؤتلف والمختلف.
سياحات العزاوي في هذا الكتاب بشأن التوصيف الحقيقي للشعر، تبعد ما تُعدُّه الثقافة التقليدية شعراً، لأنَّ صناعة المفهوم الخاص للشعر لديه تقتضي جعل الحريَّة الشرط الأساس مضموناً وشكلاً ولغةً، حريَّةً تتلاءم مع كفاح البشريّة ضد عبوديَّتها وأغلالها، مُشترطاً التلازم بين الحريَّة وبين التفاعل مع ما يجري في مجتمعه والعالم.
من قصيدة الشعر إلى قصيدة النثر
يبيِّن العزاوي خطأ تسميات الأنماط الشعرية العربية الحديثة، ويَقصد بها (الشعر الحر وقصيدة النثر)، فنازك الملائكة، ارتبكت خطأ معرفياً وثقافياً، حين أطلقت تسمية (الشعر الحرّ) على القصيدة المختلفة في أعداد الأوزان، فهي أزاحتِ القصيدة التقليدية العربية، لتستبدلها بنظيرتها التقليدية الأوروبية. وبالنسبة لقصيدة النثر، كان الخطأ المُرتكب من قبل (مجلة شعر)، حيث عُدّتِ القصيدة الخالية من الوزن والقافية (قصيدة نثر) في حين أنَّ قصيدة النثر الأوروبية هي غير ذلك. العزاوي يريد التوصُّل إلى أنّه بما أننا نحيا في زمنٍ انهدمتْ فيه الحدود بين الثقافات، حيث اقتبسنا المصطلحين آنفي الذكر، من الثقافة الأوروبيَّة، وليس من تراثنا، وجب علينا” الالتزام بمعناهما المحدَّد شعرياً وثقافياً بدل مواصلة المزيد من الالتباس وسوء الفهم”: ص27.
كلُّ شكلٍ شعريٍّ هو موقفٌ رؤيويٌّ من العالم، وعلى هذا فإنَّ الروح الكامنة في القصيدة التقليدية هي غير الروح التي تقف وراء قصيدة التفعيلة، هذه الروح الشعرية في كلِّ نمط، لها ترابطٌ بمستوى وعي شاعرها للعالم وطريقة الاقتراب الجمالي منه، وعلى هذا لكلِّ نمطٍ آليةُ كتابةٍ ومنطقٌ خاصٌّ به. والشاعر الجديد عليه أن يوائم بين نوعين من التحرّر، التحرّر من الإيقاع القديم، والتحرّر من الأفكار التي ترتبط به. معرفتنا الجديدة الموصوفة، باقتناعنا التام بأنَّ قصيدة النثر الخالية من أيِّ إيقاعاتٍ عروضيَّةٍ لها سياقها الجمالي الخاص، تفترض علينا صياغة نظريَّةٍ جديدةٍ للشعر، متجاوزةٍ للنظريات التقليدية للشعر، بأنَّ العروض جوهره. ويجزم العزاوي دائماً بأنَّ هذا الانتقال من الشعر العروضي إلى الشعر النثري لم يكنْ له أن يحدث من دون تحقّق الثورة الفكرية والمعرفية في العصر الحديث، مُقرّاً بأنَّ الشعر العربي الكلاسيكي شَهدَ تطوّراتٍ داخلية، وبلغ أقصى قدرته على الإبداع على يد المتنبي، ولكنه توقّف عن أنْ يكون مرآةً عاكسةً لروح العصر.
منظور الحداثة لدى أدونيس
تفحَّص العزاوي رؤية الحداثة لدى الشاعر والمنظِّر أدونيس، ويرى أنَّها تفقد لديه معناها الزمني المُحدَّد، أي (بزوغ العصر الحديث)، فتصبح قرينة الإبداع في كلِّ زمانٍ ومكان. حيث يرى أدونيس بأن لكلِّ عصرٍ حداثته، أي يسوّغها بالابتكار والتجديد، في كلِّ زمان، وبحسب رؤية الأخير فإنَّ أسماءٍ أمثال كلكامش وهوميروس ودانتي والمتنبي قد يكونون أكثر عمقاً وإبداعاً من بيرس وإليوت وباوند والسياب، لكنَّ هذا لا يجعلهم شعراء حداثةٍ بحسب العزاوي” لأنَّهم بكلِّ بساطةٍ لم يعيشوا داخل حياة عصرنا بعواصفه وزلازله وانقلاباته الروحية”: ص38.
الأشكال الشعريَّة مرآة التطوّر الثقافي
هناك ملحوظةٌ مهمةٌ تناولها العزاوي تتمثل في أنَّ دراسة الأشكال الشعرية أفضل مقياسٍ لمعرفة التطور الثقافي والفكري لأيِّ مجتمع، وأنَّ الإيقاع التقليدي للمجتمع العربي فكراً وشعراً، لم يتغيّرْ إلاّ بظهور الإسلام، وما أحدثه من تحوّلاتٍ فكرية، بوساطة القرآن الكريم، المُحمَّل بصياغاتٍ نثريةٍ جديدةٍ لم يألفْها الشعر والنثر العربيان، عدا ذلك استمرّ الشعر على تقليديّته، حتى منتصف القرن التاسع، حينما احتكّ العرب بالغرب، وبدؤوا يفيدون منهم في الخروج من شرنقة الماضي، ففي مطلع القرن الماضي، دشَّن بعض الشعراء أمثال نجيب الريحاني وجبران خليل جبران وجميل صدقي الزهاوي ومي زيّادة وغيرهم، كتابة قصائدهم النثرية الحرَّة الأولى، لكنَّه يصفها بأنَّها يعوزها النضج، وتفتقد إلى الشعراء القادرين على أن يتسلَّقوا بالشعر النثري إلى أفقٍ إبداعي جديد، حتى ظهرت حركة الشعر الحر( التفعيلة) على أيدي السياب والملائكة والبياتي.
ونحن نرى مع العزاوي بأنَّ من المنطقي أن تسبق قصيدةُ التفعيلة، الشعرَ النثري، ولكن التاريخ لعبها بالمقلوب، لكي يُعلن القطيعة، مع بنيةٍ شعريةٍ تقليديةٍ مُستهلكة، ومن ثمَّ يعود– أي التاريخ– ليأخذ من الشعر النثري بما يتّفق مع اشتراطاته الجديدة. ويجري كشفاً عن آليَّة التشكيل الشعري في كلِّ الأنماط وعلاقات إيقاعاتها مع الأفكار والعاطفة التي تبوح بها” باعتبارها مفتاحاً لقصيدة النثر” ص44، وهذا أحد المبتغيات المهمَّة في هذا الكتاب، فالعزاوي مؤمنٌ تماماً بأنَّ قصيدة النثر تخلو من الإيقاع، ويرى أنّ” الأشكال التي تتخذها اللغة الشعرية النثرية لا تختلف فقط عن اللغة العادية، وانما تخلق وزناً لكلِّ جملةٍ وبدون ذلك لا يبقى أيُّ معنىً لتشطير القصيدة الحر (النثرية)”:ص49، موضِّحاً بأنَّ ابن سينا انتبه إلى أنَّ أشكال الوصل والفصل في الجملة تُعتبر أوزاناً للكلام، لأنَّ النبرات تقرِّب النثر من الشعر الموزون. ويضرب العزاوي مثلاً على أنَّ الإيقاع العالي الذي يتحقَّق في النثر ماثلٌ في الصياغة القرآنيَّة للآيات، فهي على الأغلب ليستْ جملاً كاملة، ولكنَّها تنفصل ومن ثم تتّصل. ويطرح آراء النقاد بشأن الفارق بين القصيدة الحرة (النثرية) وقصيدة النثر، ذلك الفارق المتعلِّق بشكل كتابتها على الصفحة، الجملة تتبع الجملة حتى تشكِّل كتلةً مستقلَّة، أما القصيدة (الحرّة) النثرية، فتكون مشطورةً، جملةً تحت أخرى.
مواصفات قصيدة النثر
يذكر العزّاوي صفاتٍ عامّة، بما ينبغي عليه أن تكون قصيدة النثر؛ فهي قصيرةٌ ومُكثّفة ومُختزَلة، كذلك ينبغي أن تمتلك صوتاً هادئاً، بوصفها قصيدة ظل، أو كأنّها صوتٌ شخصيٌّ يتحدّث إلى قارئٍ مُفرد، وليس إلى جمهور، ويصف قصيدة النثر بأنّها قصيدة التفاصيل الصغيرة، التي غالباً ما تكونُ مُهملةً في النصوص الأدبيَّة، كما أنَّها تقوم على الوصف المُتشكِّل من تتابعٍ في الصور، ويرى العزاوي بأنَّ ما يهمُّهُ في قصيدة النثر ليس النتيجة أو الهدف، وإنما اللقطة أو الحالة النفسيَّة التي تقدِّمها، وينبعث جمالها من الوصول إلى نصٍّ يظلُّ مفتوحاً دائماً أمام قرّائه.
أخبار اليوم
كتلة الاتحاد الوطني الكردستاني تشيد بالتحول الإيجابي الذي تشهده شبكة الإعلام
2024/11/25 الثانية والثالثة