حفلة التيس لماريو فارغاس يوسا خيار المقاومة

ثقافة 2024/03/20
...

Mathieu Laine

ترجمة: كامل عويد العامري

كان ذلك في باريس، في خريف عام 2019. وقد دعاني أصدقائي لحضور حفل توزيع جائزة أدبية. ذهبت إلى هناك بحماس شبه مراهق: لم يكن بطل اليوم سوى ماريو فارغاس يوسا. كنت على وشك أن أقابل للمرة الأولى هذا الرجل الذي قرأت أعماله، واستمعت إليه، وتأملت فيه كثيراً، والذي كنت أكنُّ له إعجاباً لا يتزعزع، إلى حد إهداء أحد أعمالي السابقة له، تحت عنوان “يجب إنقاذ العالم الحر”.

في العشاء الذي جمعنا، اكتشفت أن وراء الفائز بجائزة نوبل للآداب عام 2010 بقامته الطويلة وسلطته الطبيعية وسلوكه الصارم في بعض الأحيان، ولكن بابتسامة ونظرة خادعة، رجلاً لطيفاً ليّن العريكة، وهو من بين معاصريه، وأحداً من أغلى معلمينا للحرية.
كان من المعجبين ببلزاك وأورويل وفولكنر، و”قارئاً نهماً للروايات “، هذا البيروفي الأكثر أوروبياً من البيروفيين جعل من الآداب شغفه وموطنه، من خلال مجموعة عمل فريدة ومبتكرة تقنياً تمزج بين التاريخ، والحميمية، والخيال، والواقع. إنه يجسد هذا الأدب الذي يساعدنا على إدراك قوة وهشاشة الحرية الإنسانية.
ولدت رواية (حفلة التيس) بعد لقاء بين ماريو فارغاس يوسا والكاتب المكسيكي كارلوس فوينتيس. في عام 1967، في لندن، تبادل الرجلان أثناء ذلك اللقاء، وهما يعبّان كأسيهما مجموعة من الحكايات والقصص عن الديكتاتوريين في أمريكا اللاتينية. - مجموعة مثيرة من الصور البيانية المأساوية والكوميدية، بدءاً من خوان فيسينتي غوميز، الرئيس الفنزويلي لمدة ثلاثين عاماً، الذي أعلن وفاته وهو على قيد الحياة ليعاقب أولئك الذين ابتهجوا بها، إلى ماكسيميليانو هيرنانديز مارتينيز، الذي طلب تغليف إنارة سان سلفادور بورق أحمر لحماية المدينة من الحمى القرمزية. ودّع الكاتبان الشبان بعضهما البعض، وهما يتصافحان، وقد أتعب الحزن الممتزج بالضحك عينيهما، وتعاهدا على أن يكتب كل منهما عملاً حول هؤلاء الذين دمروا الحرية الذين ولدوا في أعقاب الاستقلال، مع التفكير في طلب مشاركة كتاب لاتينيين آخرين في هذه المغامرة.
لم يكن كل شيء يسير وفقاً للخطة، لكن البيروفي أوفى بوعده من خلال إعادة النظر، بطريقة شخصية للغاية، في تقليد (رواية الدكتاتور) و”روايات الدكتاتور” هذه [ وهي أحد أشكال الأدب الروائي في أمريكا اللاتينية، التي تركز على إبراز صورة الشخصيات الديكتاتورية في المجتمع الأمريكي اللاتيني]، تستكشف ثبات الأنظمة العسكرية التاريخي في أمريكا الجنوبية، والتي يقدم الأدب الإسباني الأمريكي أمثلة عديدة عليها. يتمحور هذا النوع السردي حول شخصية الرجل القوي الاستبدادي الكاريزمي، ويدرس بمهارة التحول من السلطة إلى الاستبداد، ومن الطاعة المدنية إلى التعاون. إن رواية (حفلة التيس) لا تفكِّك منطق الاستبداد فحسب، بل تأخذنا أيضاً داخل رأس دكتاتور، وهي تقدم في مسارها سياقاً لا يزال صالحاً حتى اليوم.
في هذه الرواية الكورالية، وهي قصة فيها تتشابك عدة أصوات لتصبح صوتاً واحداً في النهاية، يوجهنا فارغاس يوسا ببراعة عبر ثلاث قصص: قصة الدكتاتور تروخيو نفسه في بداية الستينيات، وهو يكافح في ظل انضباط حديدي واضح مع آلاف الآفات والعديد من الشكوك الحميمة، قصة المتآمرين الأربعة الذين يستعدون لاغتياله، وهم يتقاسمون في انتظار لا يمكن كبته للجريمة، المآسي الشخصية التي حلَّت بهم في الدوّامة الجماعية؛ وأخيراً، قصة أورانيا المعاصرة، المحامية الناجحة في الخمسينيات من عمرها المقيمة في الولايات المتحدة الأمريكية، والتي تعود إلى  بلدها بعد سنوات من الغياب لتجد والدها العجوز مريضاً. تكشف نهاية الرواية الصدمة الرهيبة التي تعرضت لها أورانيا، التي قدمها والدها طعما لتروخيو عندما كانت في الرابعة عشرة من عمرها.
تضعنا قصص تروخيو المتشابكة وقاتليه وأورانيا وجهاً لوجه في مواجهة أبدية بين الخير والشر. كيف يمكن للفرد والجماعة إهمال حدودهم الأخلاقية تدريجياً وبشكل خبيث؟ كيف يمكنهم أن يذعنوا للملك القدير الذي يمنح النعم والمهانة ويلعب بالأرواح كما لو كان يلعب النرد؟ كيف يبيع الأب ابنته؟ كيف يبيع الرجل روحه؟ ما هي الضمانات ضد قوة الأفراد التدميرية المتعطشين للسلطة؟ ما هي الضمانات التي تمنع الثورة التي تسقط الدكتاتورية من الخضوع لنفس صافرات الإنذار وإقامة نظام مماثل للنظام السابق، إن لم يكن أسوأ منه؟ بمهارة رجل عظيم، يتساءل ماريو فارغاس يوسا بدقة عن حدود الحرية من خلال قوة سرد القصص المطلقة.
المقاومة والوضوح
إن رواية (حفلة التيس) مستوحاة من اغتيال الدكتاتور رافائيل ليونيداس تروخيو في 30 مايو 1961 في جمهورية الدومينيكان. في الرواية، يجري إثراء الإيجاز الصارم للحقيقة التاريخية من خلال تقلبات الخيال، وكذلك من خلال الأسئلة غير القابلة للاختزال التي تتعرض لها الشخصيات، سواء كانوا شركاء في الطغيان أو منخرطين في المقاومة. إن عبقرية فارغاس يوسا الروائية تمكِّنه من تصوير الظلال الخمسين للتسوية والجبن، فضلاً عن الصعوبات اللامحدودة لأولئك الذين يختارون إسقاط الطاغية.
إن المتآمرين الأربعة - الخيط السردي الثاني في تراجيديا (حفلة التيس) هذه - يعانون من عواقب خيار سياسي شجاع ومعقد في ذات الوقت. هؤلاء الرجال المحتشدون في السيارة، وهم ينتظرون بفارغ الصبر مرور الدكتاتور، تتجلى لنا هشاشتهم. فهم ممزقون بالقلق من الفشل بقدر ما يشعرون به من قلق إزاء نجاح محتمل لمهمتهم الخطيرة، كل واحد من المتمردين لديه أسبابه الخاصة للمشاركة في اغتيال الدكتاتور. حيث يُظهر لنا فارغاس يوسا، الذي استوعب جرأتهم وتعقيداتهم السابقة، رجالًا ممزقين بالشكوك والتناقضات.
يحمل   أماديتو في داخله أهوال النظام الذي جثم على قلبه بعدم الحب بعد الآن. أدت قوى الآلة الاستبدادية، وهي مزيج كاريبي من سيد Cid [مسرحية (تمثيلية) ملهاة مأساوية شعرية لبيير كورني] وانتيغون Antigone [مسرحية سوفوكليس التراجيدية ]، إلى قتل شقيق خطيبته حتى من دون أن يعرفه. ليس لديه خيار سوى الانضمام إلى المقاومة. من باب الاشمئزاز، إن لم يكن من بدافع البقاء. أما أنطونيو دي لا مازا، فهو ينتقم لمقتل شقيقه الذي أطلق عليه رجال تروخيو النار والذين كانت لديهم الجرأة لإخفاء الجريمة لتبدو وكأنها انتحار. كان أنطونيو إمبرت حاكماً للمقاطعة. وعلى الرغم من منصبه الرفيع، فقد عُزل واُعتقل. لقد عانى من الازدراء بعد الأبّهة. وأخذ يشعر بالاشمئزاز من فجور القتل والتعذيب والظلم الذي شهده، وأراد أن يحرر بلاده من نير الطاغية. أخيراً، انضم سلفادور إستريلا سادهالا، الملقب بالتركي، إلى التمرد بسبب الولاء لمعتقداته. وكان كاثوليكياً متديناً، ويدين استعباد شعب بأكمله. ومثلما فعلت الكنيسة الكاثوليكية، التي نأت بنفسها عن النظام، فقد تخلّى عن الظاهرة التروخيوية.
كان الجميع حامياً بمعدن تاريخه المتوهج، لكن الجميع يشتركون في الرفض نفسه للتعسف، والتعطش للحرية. يريد الأربعة أن يمنحوا بلدهم الصغير مستقبلاً. وبمجرد أن ضغطوا على الزناد، أصيبوا بالذهول. “خيَّم الصمت على سانتو دومينغو؛ لم يكن هناك بوق، ولا محرك، ولا جهاز راديو، ولا ضحك مخمور، ولا نباح كلاب ضالة”. ولكن هذا هو الأمر: ليس كافياً الإطاحة بالطاغية، عليك أن تعرف بمن ستستبدله. كانت البلاد بأكملها تحبس أنفاسها: “كان الهاتف العربي يرنُّ في جميع أنحاء المدينة ليخبرنا بمقتل تروخيو. وكان الناس مندهشين وقلقين بشأن ما قد يحدث”.
ولسوء الحظ، فإن الموظف الحكومي خواكين بالاجير، الذي كان من المقرر أن يتولى منصبه، خان كلمته. وبعيداً عن ضمان التحول الديمقراطي الذي توقعه المقاومون، حكم على المعارضين بالموت، وجعل موتهم يبدو وكأنه حادث. خيانة وتعقيد أخلاقي سيشعر به أنطونيو إمبرت سيء الحظ، آخر الناجين من المتآمرين الأربعة، بجسده.  و”أمام شاشة التلفزيون، لم يستطع أن يتمالك نفسه فانفجر في البكاء. فقد قُتل أصدقاؤه - بما في ذلك التركي، شقيقه الروحي - مع ثلاثة حراس فقراء، بذريعة التمثيل الإيمائي. وبطبيعة الحال، لم يعثر على الجثث أبداً”.
ومع ذلك، فإن جريمة مقاتلي المقاومة سمحت لمدينة لسيوداد تروخيو بأن تصبح سانتو دومينغو مرة أخرى: “ألم تكن هذه بداية نهاية عصر تروخيو؟ لم يكن من الممكن أن يحدث أي من هذا لو لم يقتلوا الوحش”. يتذكر أنطونيو إمبرت قراره بالتوقف عن العيش منفصلاً، والتوقف عن أن يكون “اثنين في واحد، كذبة عامة وحقيقة خاصة ممنوع التعبير عنها”، وتحرير نفسه من “الانزعاج، لسنوات عديدة، من التفكير في شيء واحد والقيام بشيء آخر كل يوم”، مخالفاً له”.
أحد التناقضات يبحث عن الآخر في المقاوم كيف يمكن أن يتمرد من دون أن يفقد كرامته أو روحه؟ هل العنف أمر لا مفر منه لاستعادة الحرية المصادرة؟ كان ألفريد دي موسيه يطرح على نفسه بالفعل هذا السؤال في لورنزاتشيو: هل ينبغي لنا أن نلوث أيدينا؟ تحت قلم عاشق جورج ساند، يتخذ قتل الطاغية، في فلورنسا في القرن السادس عشر، طابعاً رومانسياً، ممزقاً بين جمال البادرة وعدم جدواها، حيث إن لورنزو وحده هو الذي يرغب في وضع حد لعهد التعسف، عندما يتكيف مواطنوه مع القمع.
في هذا السياق الأخلاقي، يُقدم فارغاس يوسا عنصراً حساساً بلا حدود: يتردد الشك. وعدم اليقين في كل صفحة بين قتلتنا الأربعة، الذين يصلون إلى نهاية الجريمة ليس من دون خوف، وليس من دون معاناة، وليس من دون تساؤلات.
تذكِّرنا رواية (حفلة التيس) كيف أن اختيار الخير ليس سهلاً على الإطلاق. سيكون من السهل جداً على كل من مقاتلي المقاومة أن يندمجوا في قالب العبودية التطوعية، وأن يستسلموا للانبهار أو الخوف الذي يلهمه تروخيو في مواطنيهم. وسيكون من المريح جداً أن ندع أنفسنا نقتنع بالعقيدة الجماعية، هذا الطغيان اللطيف الذي “يترك الجسد ويذهب مباشرة إلى الروح”، كما يقول توكفيل. ويكتب لابويتي: “إن الطغاة عظماء فقط لأننا جاثون على ركبنا”. ويقف أنطونيو إمبرت ورفاقه. إنهم يختارون حرية المقاومة، وبالتالي الشك في وسائل وغايات نضالهم، كأبطال واضحين وإنسانيين.
في مديح “التحرير”
في أثناء تسلمه جائزة نوبل للأدب في عام 2010 في ستوكهولم، فتح ماريو فارغاس يوسا قلبه. (كان خلاصي في القراءة، قراءة الكتب الجيدة، اللجوء إلى تلك العوالم حيث كانت فيها الحياة مثيرة، ومكثفة، وفي مغامرة تلو الأخرى، حيث كنت أشعر بالحرية والسعادة مرة أخرى. وأن أكتب، في الخفاء، كمن ينخرط في رذيلة مخجلة، وفي شغف محرّم. توقف الأدب عن أن يكون لعبة، ليصبح وسيلة لمقاومة الشدائد، للاحتجاج، والتمرد، والهرب مما لا يطاق: سبب حياتي. منذ ذلك الحين وحتى الآن، وفي كل الظروف التي شعرت فيها بالإحباط أو الكدمات وعلى شفا اليأس، كان الانغماس بكل جسدي وروحي في عملي كروائي بمثابة الضوء الذي يشير إلى الطريق للخروج من النفق، وكان بمثابة شريان الحياة الذي يحمل الغريق إلى الشاطئ.
الأدب ينقذنا من سجوننا الأكثر حميمية. إنه يقدم الرفقة المستنيرة والمحررة في الأوقات المظلمة من حياتنا، مثلما يمسك التاريخ بنا من الخانق. ولفهم أفضل، وتجنب تكرار الأخطاء ذاتها. كما أسرت الكاتبة الكوبية زوي فالديس بأنها اكتشفت طعم الحرية أثناء قراءتها “المدينة والكلاب”، وهي الرواية الأولى للكاتب فارغاس يوسا، والتي يصور فيها اغتراب مجموعة من المراهقين الذين خضعوا لتعليم عسكري قاس.  لقد كان تبادل الكتاب سراً في كوبا.
في رواية (حفلة التيس)، لا يوثق فارغاس يوسا لسانتو دومينغو أو رافائيل تروخيو. إنما يروي عنهم بطريقة تحبس الأنفاس، مؤثرة، ومثيرة، ليكشف عما يرفضه الرجال والنساء جملة وتفصيلاً – الطغيان – وما الذي يرغبون فيه حقاً، رغم الجبن والمخاوف، ألا وهي الحرية. “من دون الخيال، سنكون أقل وعياً بأهمية الحرية التي تجعل الحياة قابلة للعيش، والجحيم هو عندما يدوس هذه الحرية بالأقدام طاغية أو أيديولوجية أو دين”.