كندا: جاكلين سلام
في مقدّمة الطبعة الثالثة لديوان الشاعرة نازك الملائكة الذي حمل عنوان “قرارة الموجة” والذي صدر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، عام 2001، تقدمة كتبتها الشاعرة على شكل مونولوج بين ذاتها الآن، وذاتها في الماضي وجاء الحديث باسم (الأولى والثانية). تناقش مع نفسها مسائل مهمة كاختيار عنوان الديوان ليكون قرارة الموجة أو قمة الموجة، أو طريق العودة. وتهدي الديوان إلى أمها بهذه الكلمات “إلى أول شاعرية خصبة تتلمذتُ عليها” وأقتبس هنا صورة الأولى والثانية.
“الأولى:... إنَّ العنوان ليس إلا مرآة صغيرة تعكس فترة من حياة زاخرة عاشها الشاعر، ولا بد لكل فترة في حياة الشاعر الحق في اتجاه مميز، إنه شيء قائم وهو يحتم العنوان.
الثانية: رأي متعنت. أنتِ جدية أكثر مما ينبغي. وبعد ذلك عنوانك العتيد ( قرارة الموجة) لا يمثل القصائد كلها، ففي المجموعة قصائد لا تقع تحت هذه الفلسفة.
الأولى: هذا حق. وأنت المسؤولة. لقد حذفت نصف قصائد هذا الديوان. أنكري هذا.
الثانية: إني لا أنكر. هذه القصائد لم تعد تروقني وقد حذفتها...” ينتهي الاقتباس هنا.
تعقيب: إذا، ومهما تقدم الشاعر في مهاراته الأدبية ستكون هناك مراجعة ذاتية ونقدية فيُسقط بعض نتاجه من خريطة إبداعه ولذلك نجد (مختارات شعرية) يقوم بعض الشعراء بتنضيدها وإعادة نشرها. وليست مهمة النقد أن يقيس شعرية القصيدة بمقارنتها بما كتبه الشاعر منذ 10 سنوات أو 50 بل يكون الحكم على كل نص من داخله ومحموله الفني.
وهنا أذكر فقرة من نصوص للشاعر السوري محمد الماغوط:
“الطالب: عندك ديوان (قرارة الموجة) لنازك الملائكة؟
البائع: عندي ديوان (كيف تركب الموجة)
الطالب: تأليف من؟
البائع: أبرز الشعراء والكتّاب العرب.”
الكتابة كفعل تنوير واختراق للظلام
العناوين الأدبية والرموز خادعة وذكية ولا تقرأ بأفقية ومرجعيات خارجة عن الأدب. تحجيم حرية الكاتب في انتقاء المفردات والمصطلحات تحدث في الأدبيات العربية والعالمية.
تبقى الكلمات والمصطلحات والحريات مجردة من المعنى إلى أن نضعها قيد الممارسة. وهناك هوة بين تعريف الحرية وتطبيقها، وسبل انتقالنا من المجرد التنظيري إلى الميداني والواقعي المُعاش المعاصر.
هنا مقتطف للمفكر الشاعر أدونيس، من كتابه “النظام والكلام” الذي صدر 2010 عن دار الآداب: “الإبداع الفكري “اختراق” وليس طرداً. أن تخترق شيئا هو أن تعترف به وتتعرف عليه وتتخطاه. وأنت في هذه الحالة طالع منه، أن “تطرده” هو أن تجهله وأن تنفصل عنه وأنت في هذه الحالة غريب عنه وخارجه”.
ولكن في حالات كثيرة شرقاً يجري العكس، يتم النبذ بالاعتراض على الأفكار والعناوين التي تمس الخطوط الحمراء العريضة التي يضعها الرقيب من منظور لا علاقة له بالأدب بل باعتبارات خارجة عنه كلياً. وأحياناً يكون الرقيب منطلقاً من باب الطائفة، الجنس، الدين، الحزب السياسي. والاختلاف ممكن فكرياً ومن خلال الحوار المتمدن. إذ إنَّ الفرد قد يختلف مع نفسه أحياناً مع مرور الوقت.
عناوين
لا تروق لشيوخ القراءة
شخصياً تعرضت بعض نصوصي الشعرية واضطررت للتعديل في أكثر من نص وعنوان، وعلى سبيل المثال: رفض الناشر عنوان قصيدة “في حديقة الله” وجعلنا البديل: حديقة كونية. وفي نص آخر تم حذف كلمة (المسيح) وكلمات أخرى لها مدلولها ورمزيتها. قبلتُ التعديل في حينه كي يرى الديوان النور بعد طول انتظار. وحدث مثل ذلك من قبل أثناء نشر نصوص متفرقة لي في الصحافة العربية. مثال: حذفت كلمة نبيذ ووضع الرقيب بديلاً عنها كلمة (ماء) ونشرها دون مراجعتي. وهنا أتذكر عنواناً جميلاً للشاعرة الإيرانية فروخ فرج زاد “عمدني نبيذ الأمواج”. ولا شك أنها كانت شاعرة إشكالية في مجتمع منغلق، وذلك لم يستطع أن يحجم طاقتها للتحليق فوق محدودية الواقع وكتابة أجمل نصوص العشق والوجد الإنساني الذي نتداوله في هذا العصر بنشوة.
الماغوط بين سياف الزهور
و”شرق عدن، غرب الله”
قرأتُ مرة أنَّ الشاعر السوري محمد الماغوط اضطر إلى تغيير عنوان مجموعته إلى “سيّاف الزهور” رغم أنَّ اختياره الأول كان “شرق عدن، غرب الله”. لاشك أنَّ مزاج الرقيب والطارئ السياسي الذي تلعبه القوى المتصارعة والمتحكمة يلعب دوراً في تحديد قيمة للأدب والفكر والمفردات بما يتناسب ومزاج السلطة الأكثر قوة، وإلا لما رأينا عشرات الكتب التي تسحب من الأسواق أو تمنع من الدخول إلى بعض الدول، بعد أن تكون قد طبعت أحياناً لأكثر من مرة (مثال رواية حيدر حيدر، وليمة لأعشاب البحر) وأصبح لها رصيد في ذهن القارئ ومكان على رفوف مكتبته الشخصية.
يا حزن تلك البلاد تلك التي تفضّل عنف “سياف الزهور” على العنوان” شرق عدن، غرب الله” لمجرد أنَّ بوصلة الشاعر اخترقت الحيز الجغرافي المنظور.
الشاعرة الأميركية ريتا دوف
وحرية اختيار كتابة الشعر
في حوار على يوتيوب مع الشاعرة الأميركية السوداء “ريتا دوف” التي حصلت على منصب شاعرة البلاط في أميركا منذ عدة أعوام، كانت تتحدث عن بداياتها ووالديها وحرية الاختيار التي كانت مبذولة لها في أسرة متمدنة. قالت الشاعرة:
“حين قررتُ أن أصبح شاعرة، ذهبتُ إلى البيت وأخبرت أمي فأجابت: اذهبي وأخبري والدك.”
“في طفولتي كانت أمي في المطبخ تحمل السكين وتقطع الخضار وتنشد أبياتاً من مسرحية ماكبث لشكسبير وكنتُ أعتقد أنَّ كل الأمهات يفعلن ذلك”.
وقالت عن والدها: “أبي تعلّمَ اللغة الألمانية والإيطالية بنفسه وحثّني على دراسة اللغات الأخرى وترك لي حرية الاختيار.”
وأقول: تلك الحرية في أن تختار العنوان، الجنس الأدبي، الشعر أو الرواية أو المسرح تبقى مقرونة بحرية أن تقول وتتخيل بأقل ما يمكن من المقصات ليكون الكتاب الجديد وعاء لفكر جديد وليس تكراراً لكل ما قيل من قبل.
كما أهدت نازك الملائكة الديوان لأمها، أهدي هذه الكلمات لروح أمي التي لم تقرأ ولم تكتب، وكانت تريدني أن أقتصد في الكلام وأن أمشي مع التيار والموجة.