إن كان الموت عملا شاقاً فكيف ستبدو الحياة؟

ثقافة 2024/03/20
...

  وداد سلوم

ارتبط الموت بالراحة الأبدية، بينما كانت الحياة دوماً شقاء الإنسان، لكن خالد خليفة في روايته {الموت عمل شاق} المترجمة إلى لغات عديدة يقلب المعادلة، مؤكداً أننا في زمن يبتكر مفاهيم جديدة تواكب ألم الواقع. لم يكن عبد اللطيف السالم يعرف أن وصيته لابنه نبيل الملقب بـ {بلبل} بأن يدفنه في قريته العنابية في ريف حلب سوف، تسبب لأولاده كل هذا الشقاء ولابنته الوحيدة الخرس.

وحين وعده نبيل بتنفيذها لم يكن يعرف كم سيخطر في باله وبال أخيه حسين أن يحنث بالوعد ليس فقط من أجل راحتهما، بل من أجل راحة جسد والده نفسه. فبين دمشق وحلب ورغم البرد ستتعفن الجثة ويوغل فيها الدود لتصبح مرافقتها مشقة هائلة.
تبدأ الرواية  بوفاة الأب الأستاذ عبد اللطيف السالم، وهو البطل الصامت، إذ يجتاز الرواية كجثة. لكنه الحاضر عبر التذكر، ليأخذ السرد منحيين؛ الأول  الزمن الحاضر لإخبارنا بتفاصيل تلك الرحلة الشاقة في ظل حرب تمتد مساحة وطن يتمدد فيها الخراب والرعب و يتوزعها الطرفان المتحاربان وتنويعاتهما العسكرية. وما يتعرضون له من ابتزاز عبرها. يتمنى الابن لو كان والده أكياس كمون لاستطاع تمريره كبضاعة بسهولة أكثر من كونه إنسانا. خاصة أنه مطلوب من جهة النظام حتى وصل الأمر حد اعتقال الجثمان على أحد الحواجز، بينما سيشكل قدومهم من العاصمة تهمة ليس بالسهولة تجاوزها أبداً، أمام فصائل المعارضة المسلحة المتشددة.
وما كان باستطاعتهم تجاوزه خلال ثلاث ساعات ونصف - مدة الرحلة الأصلية-  سيحتاج  ثلاثة أيام بلياليها.
أما المنحى الثاني في السرد فهو الخطف خلفاً للحديث عن ماضي العائلة، وكشف النقاب عبرها عن الواقع الاجتماعي قبل وبعد انطلاق الحراك وتحوله إلى حرب شاملة قسمت المجتمع السوري على صعيد العائلة الواحدة. فالاستقرار العائلي السابق لم يكن إلا وهماً والوالد الذي انخرط في الأحداث ورغم مكانته الاجتماعية نمت فجوة بينه وبين أولاده الذين كانوا في الجانب الاخر، فابنته فاطمة تعيش وهم التميز وتفشل في زواجها الأول، وابنه حسين المحبوب والمتفوق دراسياً يترك الدراسة، ليعمل كمرافق مغنيات في الكباريهات، بينما نبيل الذي لم يتزوج بحبيبته لاختلاف الطوائف،  يفشل زواجه ويعيش بعد طلاقه غريباً في حي يمارس عليه اضطهاده الطائفي والسياسي وتنمره الإنساني.
تسير الرحلة بصعوبة بالغة وتكون فرصة للمكاشفة فيما بينهم ولنكتشف خلالها واقع مجتمع كامل يتبعثر ويفقد كيانه وينكسر حلم أفراده الذين يعيشون التشرذم وفقدان الصلات الحقيقية الأصيل بين بعضهم لتتوازى الشخصيات في تيارين الأول، يمثله الأب الميت حاضراً، لكنه الشخصية الوحيدة الفاعلة والمنسجمة مع أفكارها تجاه التغيير على الصعيدين العام والشخصي وما عاناه جراء ذلك، وتشكل وصيته إشارة لاستعادة انتمائه الضائع ولرد الاعتبار لأخته ليلى التي تخلى عنها حين فأحرقت نفسها ليلة زفافها احتجاجاً على إرغامها عليه، إذ اوصى بدفنه قربها كأنه  يكفّر بذلك عن سلبيته السابقة.
أما التيار الموازي فنلاحظ أنهم شخصيات مهشمة ومأزومة، طحنتها الحرب، وكأن الحاضر هو زمن اللاجدوى والتآكل، فحين صار بإمكان نبيل الفرار إلى تركيا بعيداً عن الخراب النفسي والجغرافي فإنه يتراجع ويعود إلى مكانه بينما تصاب الأخت بالخرس ويعود حسين إلى حياته الاعتيادية  التافهة.
تكشف الرحلة التي استمرت أياماً ثلاثة فقط هي زمن الرواية أوراق الأفراد والمجتمع وانكسارهم فالحرب التهمت البلاد والآمال، إذ يدفع الثمن الفقراء والمهمشون. يعيد الموت الفرد لانتمائه الانساني الذي تخربه السياسة والصراعات القائمة بينما تتحول السيارة التي تمتلئ بالدود الساعي من الجثة إلى وطن يجمع الأبناء في رحلة تكشف أوراق الماضي والحاضر.  
قدم خليفة عدة نماذج للمرأة السورية فإصابة فاطمة بالخرس رمز لغياب الرأي والتأثير في المجتمع فالمرأة لا تملك قرارا بإيقاف هذا الدولاب الذي يدهسهم بلا رحمة بينما هي الأكثر تعرضاً للنتائج والآلام. نموذج آخر تمثله طليقة نبيل التي تصنف حياتها بلحظة الولادة ولحظة الزواج ولحظة الموت وما بين هذه اللحظات واجب عبوره بأقل الخسائر، بينما تظهر صورة أخرى للمرأة الفاعلة والقوية في شخصية لميا حبيبة نبيل القديمة، التي حولت بيتها إلى ملجأ للسوريين المهجرين والذين فقدوا بيوتهم.
رواية شيقة لا يستطيع القارئ الافلات منها ولا من لغتها البسيطة التي تجعله يعيش اللحظة بقسوتها وشدتها وألمها، يسير السرد بين المنحيين بشكل متماسك ومشوق وسلس محافظاً على سوية التوتر السردي حتى النهاية، بلغة شفافة تستند إلى التناقضات العاطفية والفكرية بين الشخصيات راسمة الواقع عبر المفارقات الموحية، مبرزاً خصوصية كل فرد وعالمه الداخلي وتحديداً نبيل الذي يقوم خليفة بمشاركتنا حياته الجوانية فيقترب منه القارئ ويشعر بالتواصل والبحث عن مرآته فيه، في حبكة بسيطة لا تحتمل الرواية التنويع عليها أكثر.
فقد استطاع الكاتب صاحب روايتي “مديح الكراهية” و “لم يصل عليهم أحد” اللتين وصلتا إلى البوكر العربية، أن يكشف ثنايا بنية المجتمع الذي عاش حرباً طويلة حولت البلاد إلى خراب تتجول فيه الكلاب المتوحشة، وعن الصراع الداخلي للشخصيات، فالبطل  الرئيسي نبيل شخصية مسالمة مأزومة مسلوبة  امكانية الفعل، يعيش في تلك الرحلة  مواجهة مع الذات، ويجلد نفسه في تذكر جبنه وخوفه وقبوله تنمر واضطهاد أهل الحي الطائفي له، ويقرر عقب العودة إلى دمشق مواجهة الضغوطات واستعادة اسمه الحقيقي  نبيل بدل بلبل الاسم المتداول له في إشارة للتدجين الحاصل والمستمر. لكنه يتكور في السرير كجرذ حين يدخل المنزل.