أ. د. باسم الأعسم
لا أظن أن ثمة بلدا كالعراق تتناسل فيه الذوات المبدعة بنحو عجيب وغريب، على وفق أنماط إبداعية عدة، في كل حقب التاريخ، مما يعني أن العراق يتكئ على سلسلة متنوعة من شخصيات وحضارات متعددة، شيدتها تلكم العقول الخلاقة، في شتى ميادين العلم والأدب، والفن وتلك من المسلمات البديهية، التي عززتها الاكتشافات والتنقيبات التي أفصحت عن سيل عارم من المنجزات الفكرية والأدبية والفنية، كما هي الحال في بابل أم الحضارات، ومركز الكون.
ولقد دلتنا شواهد التاريخ، والتأليف الأدبية، واللقى الأثرية والرسومات الجدارية على عظمة العقول المنتجة لتلك المنجزات الأدبية، والفنية، والمعرفية، بل كان لها الفضل الأكبر في تدوين المؤلفات، وتجسيد الشخصيات، ومحاكاة مظاهر الحياة المختلفة، كما أفصحت عن ذلك الرسومات والمنحوتات جيدة الصنع، التي شكلت ملامح الهوية الوطنية والإنسانية للحضارة العراقية الأصيلة بفضل مخرجات التفكير الخلاق للأدباء والفنانين بالدرجة الأساس، الذين حققوا السبق الثقافي والحضاري، فأضفوا قدراً من الخصوصية على المنجزات الحضارية الدالة على تلك العواصم المتحضرة كبابل، التي أذهلت الشعوب بروعتها، وسبقها، وحضارتها، وفرادتها، بمعنى أن العلامة السيميائية الدالة على عظمة بابل، وفرادتها، هي العمق الثقافي، الذي ساهم في بناء البعد الحضاري لمدينة بابل، محققاً بذلك السبق الزمني للحضارات الاخرى، فعلى حد قول المؤرخ «هيرودوت» إن: الحضارة السومرية قد سبقت الحضارة الإغريقية بألفي عام، وهذا يعني أن ملحمة «جلجامش» أقدم من ملحمتي الإلياذة والأوديسة، مما يدعونا هذا السبق الحضاري أن نكون في موضع فخر واعتزاز، وأن يكون حاضرنا امتداداً طبيعياً لماضينا، ونقطة انطلاق لتأشير ملامح مستقبلنا، لكي لا نضيّع «المشيتين» حسب المقولة المتداولة.
ولما كانت الثقافة تشكل الثقل الأكبر في تاريخنا، وحاضرنا، فينبغي أن نتخذ من الثقافة وأعمال الفكر، والفن، وسيلتين حضاريتين لمخاطبة الآخر، وتفعيل حركية العلم والفكر، والأدب والمعرفة، مثلما هي الأمم المتحضرة التي شرعت ببناء البنى التحتية الثقافية، ورصدت الأموال الطائلة ولم تزل، لتنشيط الحراك الثقافي، والفني، إذ لا يمر أسبوع من دون ندوة، أو مؤتمر، أو فعالية قرائية، أو ثقافية، لأنها أدركت عن وعي أن الثقافة من أسمى، وأخطر الخطابات الفكرية والإعلامية لبلوغ الحقيقة، والاتصال مع الآخر، وترجمة المنطلقات الاجتماعية والإنسانية، ومن ثم إشاعة السلام المجتمعي، والعدل، والتسامح، عقب الانفتاح على جميع المؤسسات والمنظمات المدنية الراعية للطفولة، والسلم الأهلي.
وعند اجراء مقارنة واقعية بيننا وبين البلدان السائرة في ركب التقدم والمدنية، سنجد حجم التفاوت الهائل، إذ لم تزل مؤسساتنا التعليمية والتربوية بحاجة إلى مراجعات لتجديد المناهج الدراسية ,بقصد
الإضافة، والتغيير، والحذف، فلم تزل الأمية تشكل نسبة وإن كانت ضئيلة، وان الاعمار لم يطل البنى الثقافية، فما زالت قصور الثقافة والفنون في أغلبية المحافظات محض أبنية بحاجة الى إعمار، وأما الفرق المسرحية الأهلية، التي طالما عرفت بنشاطها المسرحي المتمثل في تقديم العروض المسرحية الهادفة والملتزمة، فقد توقفت منذ عقود، وثمة دوائر تابعة إلى وزارة الثقافة ما زالت تعمل بمبدأ التمويل الذاتي، وأما دور السينما فقد أغلقت دونما رجعة، والأهم أن مجلس الثقافة والفنون لم ير النور، على الرغم من أهمية في تصعيد المشهد الثقافي والفني، مثلما هي الحال في البلدان الأخرى، كالكويت، ومصر، وغيرهما، أما نقابات الفنون، واتحادات الأدباء، فينبغي أن تتولى الدولة دعمها.
ولذلك، يبقى السؤال مطروحاً على مائدة الجدل، ومؤداه: متى ستحظى الثقافة والفنون عندنا بأولوية لدى الدولة؟! ولكي يتحقق التوافق السليم بين المنظومة الثقافية للدولة، وبين المنظومة الثقافية لشريحة المثقفين، لا مناص من تفعيل سلطة الثقافة، واشراك المثقفين في إدارة المؤسسات الإعلامية والثقافية والفنية وسواها، بوصفهم الأقدر في إدارة شؤون وشجون الثقافة والمثقفين، فضلاً عن وعيهم ونزاهتهم.
لقد أبدع المثقفون العراقيون المهاجرون، عندما أنيطت بهم مسؤولية إدارة بعض المؤسسات التربوية، والتعليمية، والثقافية، لما يتمتعون به من امتيازات، ومهارات، وقدرات، أفصحت عن جدارتهم، وتفوقهم عن سواهم، بعد ما أتيحت لهم فرص العطاء بحرية تامة، فلم نزل نتذكر باعتزاز الناقد الأكاديمي الدكتور عبد الله إبراهيم، الذي فاز مؤخراً بجائزة العويس الثقافية، والقاص جمعة اللامي، والروائي محسن الموسوي، والدكتور محمد سيف، وكريم رشيد، وحازم كمال الدين وزها حديد، فضلا عن رموز الثقافة العراقية في الداخل الذين عرفوا بغزارة ثقافتهم، وصدق وطنيتهم، وحقيقة انتمائهم، وجلال منجزاتهم، مما يؤكد للجميع تفردهم في صياغة الرأي العام، ومناصرة الحق، والوقوف الى جانب الشعب في محنه، وقضاياه المصيرية، فضلاً عن إشاعة قيم الجمال، والفكر،
والتسامح.
ويبقى المثقف والفنان مصدر فخر واعتزاز لكل الشعوب المتحضرة الحالمة بحياة تليق بها أسوة بسواها، ولذلك أن رعايتهم وحمايتهم من صلب مسؤولية الدولة.
وتبقى الثقافة والفنون من العلامات التنويرية الدالة على تنامي وعي وذائقة وفكر الشعوب.