الاسترسالُ السرديُّ في المرأة التي أضحكتني

ثقافة 2024/03/26
...

  محمد صابر عبيد

تقوم المجموعة القصصيّة الموسومة "المرأة التي ضحكت وأضحكتني كثيراً" لحلمي نجم (دار ماشكي للطباعة والنشر والتوزيع، الموصل، ط1، 2023) على خمس قصص كتبها القاص في أوقات مختلفة، بحسب ما يصرّح به في مقدمة وضعَها لها يقول فيها: {هذه المجموعة من القصص كتبت في أوقات تباعدت في أماكنها وأزمانها، اتحدت في هدفها الأساس وهو الإفصاح عن هواجس النفس وتفريغ شحنات التوتّر التي تزخر بها حياتنا المعاصرة}.
وضمّت المجموعة خمس قصص هي: "عندما التقيت ملتون-الواتس آب-المواجهة- المرأة التي ضحت كثيراً وأضحكتني-السفرة"، تقدّمتها "إضاءة" احتفائية كتبها القاص نجمان ياسين، ومن الملاحظة الأولى ندرك أنّ القصص الخمس تندرج في فضاء "القصّة القصيرة"؛ التي تُكتَب بأسلوبيّة سرديّة تعبيريّة وتشكيليّة يمكن وصفها بـ"الاسترسال السرديّ"، وهذا المصطلح يعني أنّ القاص يفتح أفق الوصف والسرد والحوار على مصراعيه، من دون التقيّد بما تستلزمه تقانات القصّة القصيرة وآليّاتها من تكثيف وتركيز وإيجاز في عمل العناصر، انسجاماً مع التطوّر الحاصل في هذا الفنّ؛ على هذا النحو وقد وصل أخيراً إلى "القصّة القصيرة جداً"، وهي قصّة شديدة التكثيف والتركيز والإيجاز بحيث لا تتعدّى الصفحة الواحدة في الكتاب المطبوع، استولدتها القصّة القصيرة في طريقها نحو التعبير عن أسوع الأفكار بأقلّ ما يمكن من الكلمات.
تتحرّك قصص هذه المجموعة خارج هذا الفضاء السرديّ المتحرّك باتجاه الاختزال تماماً، وتأخذ حريّتها في "الاسترسال" من دون العناية بتلك الصفات التي آلت إليها القصّة القصيرة الحديثة، وإذا ما أخذنا إشارته السابقة بنظر الاعتبار من حيث الهدف الرئيس لكتابتها ونشرها "الإفصاح عن هواجس النفس وتفريغ شحنات التوتّر التي تزخر بها حياتنا المعاصرة"، فقد نجد مبرّراً منطقيّاً لهذا الاسترسال الذي يشعر فيه الراوي أنّه أفصح عن هواجس نفسه بإفاضة؛ وفرّغ شحنات التوتّر التي أصابته ممّا تزخر به الحياة المعاصرة بانفتاح كبير على عناصر التشكيل القصصيّ، على النحو الذي أشبع حاجته ورغبته ونيّته في قول كلّ ما يريد داخل كلّ قصّة، ليكون مصطلح "الاسترسال" هو المصطلح الأكثر استجابة لهذا النوع من السرد القصصيّ؛ من دون العبور إلى استخدامه بوصفه حُكمَ قيمةٍ ينتهي إلى إيجابيّة السرد أو سلبيّته، إنّما هو أسلوب تعبيريّ وَجَدَ الكاتبُ أنّه يستجيب لرؤيته الخاصّة في صوغ القصّة وبنائها، وللقارئ الحريّة الكافية في التواصل مع حساسيّة هذا الاسترسال أو عدم التواصل بحسب فلسفة القراءة التي يعتمدها ومزاجها.
يمكن وصف قصّة "الواتس آب" بأنّها النموذج الأمثل لهذا النوع من السرد القصصيّ من بين هذه القصص الخمس، وهي تتحدث عن شخصيّة الراوي الذاتيّ، وشخصيّة "وفاء" زميلة العمل وشخصية زميل العمل "هشام"، بهذه المحدوديّة في رسم الشخصيّات فضلاً عن محدودية الزمن والمكان داخل الفضاء السرديّ العام للقصّة، وبما أنّ العلاقة بين هذه الشخصيّات الثلاث من حيث المبدأ هي علاقة عمل بالدرجة الأساس، فإنّ فعاليّة الاسترسال السرديّ لا تسمح كثيراً بالامتداد والتوسّع في إنتاج مزيد من الأحداث، على النحو الذي يتدخّل "الواتس آب" بوصفه آليّة تواصل حديثة ليصنع فرصة جديدة لتفعيل الاسترسال السرديّ، حين يتحوّل الرأي حوله إلى نقطة خلاف وحيدة بين الراوي ووفاء بعد سلسلة من التفاهمات العالية بينهما على أصعدة كثيرة، فشخصيّة الراوي الخمسينيّة تشعر بقرابة وجدانيّة وقدر عالٍ من التفاهم الذوقيّ والثقافيّ مع شخصيّة "وفاء" الثلاثينيّة، كي تكون استشاراته التي يقدّمها لها -بناءً على طلباتها- وقت الحاجة ناجحة جداً.
تحصل المفارقة السرديّة حين تستشيره فيما تعانيه من قلق تجاه الرسائل الغريبة التي تصلها على الواتس آب، وحين عبّر لها عن استغرابه من ذلك لبساطة الحلّ في إهمال الرسائل التي تقلقها وتجاوزها وعدم العناية بها؛ نشأ خلاف في وجهات النظر بينهما، أدّى إلى ضعف تلك الحساسيّة الوجدانيّة السابقة بينهما، وحين وردتهُ -فيما بعد- رسائل غامضة من مجهول أهملها أوّل الأمر؛ ثم ما لبث أن دفعه الفضول إلى فتحها والتعامل معها، أدرك أنّ استشارته لوفاء حول الأمر لم تكن سليمة بدرجة كافية، إذ وجد أنّ درجة عالية من الإغواء والإغراء والفضول تدفع الإنسان إلى التورّط فيما يظنّه لا أهميّة له، وبعد ذلك يكتشف أن سلطة الآلة "الواتس آب" كفيلة باستحداث هذه الأهميّة على النحو الذي يغيّر قناعة ويستبدل بها قناعة جديدة.
هذا هو جوهر ما تريد القصّة إثباته باسترسال سرديّ انفتح على استثمار واضح لطبقات نفسيّة واضحة ومضمَرة، تكشف عن نزعات إنسانيّة تحتاج إلى نَفَسٍ سرديّ طويل نسبيّاً؛ يتماشى مع تعقيد الذات البشريّة على نحو لا يمكن معه فهم طبيعتها من دون مزيد من الحكي والحجاج والتداول، قد يخلّ أحياناً بعمليات الضبط السرديّ للحراك القصصيّ في نموذجه السرديّ التقانيّ المعروف والمتداوَل، غير أنّه يستجيب على نحو ما لهذا الفضاء المفتوح ذي الأفق الواسع؛ الذي يجعل من فعاليّة الاسترسال السرديّ ذات أداء قادر على الإقناع.
تدور قصص المجموعة الأخرى في فضاء سرديّ قصصيّ لا يناسب أحياناً آليّة الاسترسال، فهذه الآليّة في شكلها الإجرائيّ العام هي آليّة سرديّة روائيّة أكثر منها قصصيّة، لأنّ أساليب التعبير الروائيّة بحاجة دائماً إلى فعاليّات الاسترسال كي تتحرّك في إطار مفتوح قابل للانتقال من حدث إلى آخر، ومن شخصيّة إلى أخرى، ومن مكان إلى آخر، ومن زمن إلى آخر، ومن رؤية إلى أخرى، بما يجعل الفضاء السرديّ العام رحباً يستوعب زخم الحراك السرديّ لعناصر التشكيل، لذا يمكن القول -استنتاجاً- إنّ أسلوبيّة التعبير في قصص مجموعة "المرأة التي ضحكت وأضحكتني كثيراً" لحلمي نجم؛ هي أقرب إلى حركيّة الفضاء الروائيّ لما تنطوي عليه من نَفَس سرديّ طويل، يصلح أكثر للعمل الروائيّ الذي يحتاج إلى هذا النَفَس السرديّ
الزاخر بالتوالد والتواصل والانتقال الحركيّ الأدائيّ.