حازم رعد
تدرك السلطة {سلطة العادات وسلطة مؤسسات العالم القديم} تماما أن جوهر الفلسفة هو الحث على طرح الأسئلة، فالسؤال هو مفتتح قارة التفلسف ورغبة النفس في التعرف والكشف عن الأشياء، والاسئلة تفتح العقول على ما هو مسكوت عنه، ومهمتها رصد حركة الأشياء والأحداث، ولذا هي بنظر السلطة تثير الاشكالات، وعليه هي فتنة، والفتنة تعني المشكلات، وليس ببعيد أن تهدد كرسي السلطة {كرسي النفوذ والهيمنة}.
من هنا يكون اللجوء إلى منعها أو السيطرة على الفلاسفة وصبها في قوالب "رسمية منهجية تناسب ايديولوجيا السلطة" للسيطرة على التفكير.
وانطلاقاً من هذه المقاربة جرى التنكيل بالفلاسفة، اعدام سقراط ومحاولات الاجهاز على افلاطون وارسطو طاليس ومحنة ابن رشد وتشرد ابن سينا والملا صدرا، وأمر جستنيان بإغلاق الاكاديميات ما بين اثينا والاسكندرية والتضييق على كل المفكرين وحصر التفلسف في الجامعات، بما تمليه المناهج التي تقرها السلطة وتقيد المشتغلين بالفلسفة بالاقتصار عليها حتى لا يخرج أحد عن السائد المألوف.
إن من يتساءل ويكثر محاولاته لفهم الحياة ومجريات الأحداث وما يقف من أسباب وأيادِ وراء كل ظاهرة وسلوك، لا يعيش بأمان.
إذ الأخطار ستحيط به من كل جانب وصوب فمع إن في السؤال رغبة في الكشف والتعرف إلا أنها بنظر السلطان وبنظر العامة دعاوى ريب وهرطقة.
إن طرح الاسئلة فيه خطورة ليست واحدة فقط، وإنما متشعبة خطورة من الداخل.
إذ التساؤل يزعزع معمار المسلمات التي يعتاش عليها الناس أجيال تلو أجيال، وهناك خطورة من خارج تتمثل بارتياب السلطة من الذي يسأل.
ولكن هناك أمرا ملفتا تبدى عن حملة التضييق على التفلسف "إذ بعض الأحداث تصنع منعطفات فاصلة في التاريخ، هي تحدث نتيجة الفعل، لكن الفاعل قد لا يكون قد أرادها أو حتى قد كان ملتفتاً لها) هو أن تلك الحملات التي ضيقت على الفلسفة، وسعت دائرة تمددها بعد أن كانت مقتصرة على اليونان والإسكندرية، وبعد أن كان الفلاسفة لا يخرجون عن تلكم الجغرافيا، أخذت بالتحول باتجاه الشرق، ومثال ذلك الحملات التي شنها الإمبراطور الروماني جستنيان بمعية رجال الكنيسة، ضد الفلسفة أدت إلى انتقالها للشرق وبلاد فارس وتشكل الاتجاهات الجديدة في الفلسفة على يد فلاسفة أفذاذ وانطلاق فعاليات الترجمة وافتتاح مدارسها المختلفة.
والعرب صار مفتتح قارة الفلسفة من جديد وبنيت الحضارة الجديد على وقع انغام الفكرة وحركة أوتار المنهج، وبسبب حركة الترجمة في بلاد العرب والمسلمين ونقل تراث اليونان اليها ظهر الكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد وشيدت أكبر صروح الفلسفة ومدارس الترجمة "بيت الحكمة ومدرسة الرها ونصيبين وجند نيسابور" والتي كانت السلطة فيها قد تعاهدت على دعم الفلسفة والفكر العقلاني مما ساهم في نموه وانتشاره.
ومن تلك البقعة شع نور الفكر والعلم والفلسفة إلى العالم الآخر واستفادت اوروبا من ترجمات واضافات العرب المسلمين لبنات صنع نهضتها وصحوتها من جديد، وانتقلت الفلسفة بعناوينها المضافة الجديدة، فظهرت مذاهب واتجاهات من قبيل "السينويين والمدرسة الرشدية أو الارسطية الردكالية".
وكانت هذه الاتجاهات تقوم على أسس ارساها فلاسفة مسلمون أخذوها عن أرسطو وغيره، شرحوها وطوروا عليها وقدموها للعالم بلغة وشروح واضافات أخرى، وهذا دليل يضاف إلى مجموعة الادلة التي ترسخ فكرة أن "العقل هو قارة الفلسفة الوحيدة، وأن الاتصال والتماس حاضر بين الاقاليم والعوالم المختلفة" وأن كل تلك الاقاليم والعوالم كان لها اسهام ما في تظهير الفلسفة وبعث الفكر وصناعة الحضارة والتاريخ.
لم تدرك السلطة ولا المتحالفون معها في حربهم ضد التفلسف، إلا أن تلكم الحرب ستكون لها نتائج عكسية في انتشار الفلسفة بشكل أقوى وبدائرة أوسع من الناحية الجغرافية.
إذ أخذت بالانتشار في بلاد فارس والعرب، ثم اندمجتا البلدين معاً لتشكيل جغرافيا الحضارة الإسلامية الجديدة التي حضت على التفكر.
وكانت أحد أسباب نمو وتطور التفكير الفلسفي، وبعد أن أرسيت حضارة إسلامية أخرى في بلاد الغرب، وهي الحضارة الإسلامية الأندلسية، والتي كانت السلطة فيها داعمة لحركة الفكر والعلم والعلماء، أخذت الفلسفة بالعودة والانتقال إلى الغرب، ولكن بإضافات وزيادات وتحول مهم أسهم فلاسفة المسلمين فيه، فكان لها من هذه الناحية الدور البارز في ايصال الحراك الفلسفي للغرب وأوروبا.
فمخاوف السلطة لم تأت من فراغ، بل هي معلقة على واقع وتاريخ ونضال قادته الفلسفة في ايقاظ العقول ودعواتها للتمرد على السائد، وأن يكون ايمانها عقلياً مشيدا على ركائز النشاط البرهاني والاستدلالي، ليكون راسخ الجذور قوي التمركز، لا يقيناً مشوباً بالخرافات ومحاطاً بالأباطيل والشبهات، فكان كل ذلك بمثابة ناقوس خطر السلطة من الفلسفة.
