الرواية العراقيَّة.. حروب وسجون وانتهاك لحقوق الإنسان

ثقافة 2024/04/02
...

  د.يحيى حسين زامل 

في دراسته "مدونة العنف في العراق" يبدأ الباحث أحمد حميد بكلمة  لـ "حنة آرنت: كل انحطاط يصيب السلطة إنما هو دعوة مفتوحة للعنف"، ممهدًا  لقضية انغراس العنف عميقًا في سلوكيات المجتمعات الشرقية، ولا سيما المجتمع العراقي الذي كان له النصيب الأكبر من هذا العنف الذي غيّر موازين القوى الاجتماعية والسياسية فيه، وبسببه اهتزت المنظومة القيمية نتيجة أنواع العنف المادي والمعنوي الذي مورس بحق العراقيين من قبل السلطات الحاكمة على مدى عقود من الزمان.

يذكر حميد في مقدمة دراسته أن الرواية العراقية مثلت "العنف" خير تمثيل من خلال سردها الزاخر لمختلف مستويات العنف، وهذه الدراسة ستغطي العنف في الرواية العراقية من عام 1960 إلى 2003 ، ﻷنها الحقبة اﻷبرز في تفشي العنف، وكذلك لظهور نتاج روائي كبير يغطي تلك المرحلة، وما بها من أحداث مرعبة وموت وسجن وانتهاك لحقوق الإنسان. 

ولأن المفاهيم والمصطلحات هي مفاتيح كل دراسة فقد اعطانا الباحث مفتاحًا له ثلاث حركات، الحركة اﻷولى تعريف العنف لغويًا، والحركة الثانية توصيف العنف فلسفيًا، والحركة الثالثة تحليل العنف اجتماعيًا، ثم ينفتح إلى تعريف شامل بأنه: (السلوك المشوب بالقسوة والعدوان والقهر الإكراه، وهو عادة سلوك بعيد عن التحضر والتمدن، تستثمر فيه الدوافع والطاقات العدوانية استثمارًا صريحًا بدائيًا، كالضرب والتقتيل للأفراد، والتكسير والتدمير للممتلكات واستخدام القو ﻹكراه الخصم وقهره). فضلًا عن "العنف المادي" الذي ساد المجتمع فقد كان إلى جنبه عنفًا معنويًا ورمزيًا لم يبخل الباحث في تسليط الضوء عليه، لما فيه من أهمية في تكامل الرؤية الفلسفية والاجتماعية 

للعنف. 

وتكونت الدراسة من ثلاثة فصول،  تناول الفصل اﻷول العنف الذي طال الشيوعيين والقوميين والبعثيين والأسلاميين والمستقلين، وتناول الفصل الثاني العنف الذي نال من المرأة، وتناول الفصل الثالث عنف الحرب، لاسيما الحرب العراقية/ الايرانية، وحروب أخرى.  

وتناولت  الدراسة 33 رواية مثلت عينة للسرد الروائي في تلك العقود المتسمة بالعنف، بوصفها متميزة برؤية فنية عالية واتجاهات فكرية وموضوعات واقعية متصلة بالصراعات السياسية والاجتماعية والثقافية في البلاد، وبنفس الوقت برؤية نقدية ساردة للوجع العراقي وموجهة الرأي العام صوب هذه الانتهاكات الإنسانية، وهذا ما يمتيز به الأدب، فليس الأدب للأدب، وإنما الأدب للمجتمع، وقضاياه 

المصيرية. 

ولكل دراسة منهجًا يمكن عبره تحليل موضوعات الدراسة المطروحة، لذلك اختار الباحث منهج "البنيوية التكوينية" لـ "لوسيان غولدمان1931 ـ 1970" الذي كان فيلسوفًا وعالم اجتماع فرنسي، ومنظرًا ماركسيًا، وأستاذًا في "مدرسة الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية"، في باريس، ويتكون هذا المنهج من آليات للتحليل تتمثل: (1) بـالفهم والتفسير. (2) بالبنية الدالة.  (3) بالوعي القائم والوعي الممكن. (4) بالرؤية إلى 

العالم. 

وحول الاجراء اﻷخير "الرؤية إلى العالم"، فقد ذكر الباحث جملة من المفكرين الذين اهتموا بهذا اﻷجراء التحليلي، قبل "غولدمان"، ومنهم "دلتاي، ولوكاتش وهيجل وماركس وغرامشي"، ولكنه أغفل عالم الاجتماع ماكس فيبر، وعالم اﻷنثروبولوجيا البريطاني روبيرت ريد فيلد، اللذان اهتما كثيرًا بالرؤية إلى العالم، بوصفها نظرية مفسرة للواقعات الاجتماعية.

وتأتي البداية من عقد الستينيات بوصفه العقد الذي انتعشت فيه الرواية فنيًا، وانطلق منه التنوع والتطور السردي والتقني للرواية المحلية، ووثقت فيه ثقافة العنف التي بدأ بالانتشار في الاوساط الاجتماعية وما يلحق به من تفاصيل وأحداث متباينة.   

فكانت رواية غائب طعمة فرمان المعنونة "خمسة أصوات"، التي تعد أول رواية متعددة اﻷصوات، والتي وثقت فيضان نهر  دجلة عام 1954، وسجن نقرة السلمان، والذي يعد مثابة العنف في ذلك العقد، فضلًا عن سقوط حكومة فاضل الجمالي "1953ـ 1954"، وتسرد الرواية العنف السياسي في تلك المرحلة من خلال شخصية طالب الشيوعي، وصديقه سعيد، إذ يكشف النص الروائي عن ثقافة الاستبداد ومناكفة الخيار الشعبي الديموقراطي، وتحدث الفصل عن رواية "الثلاثية اﻷولى، لكاتبها جمعة اللامي، ومشاهد العنف فيها، ورواية الكاتب نجم والي المعنونة "مكان اسمه كميت"، والتي توضح العنف ضد المرأة اليسارية في تلك الحقب، فضلًا عن روايات أخرى لروائيين من أمثال "عبد الرحمن مجيد الربيعي‘ وفاضل العزاوي وزهير 

الجزائري". 

وتناول الفصل الثاني‘ العنف المرتبط بالمرأة من خلال راية "حبات نفتالين" لعالية ممدوح، الصادرة عام 1986، وكيفية ضياع العائلة، في ظل سلوك الأب القمعي والعنيف. وكذلك رواية "أطراس الكلام" للروائي عبد الخالق الركابي وهي رواية تكشف عن العنف الدائر بسبب الحرب، وخصوصا حرب ما يسمى بعاصفة الصحراء، لإخراج قوات الجيش العراقي من الكويت عام 1991. وتأثير الحرب على البنية الاجتماعية للعائلة العراقية. وكذلك رواية "الخراب الجميل" للروائي أحمد خلف، والتي توضح العنف الأسري ومظلومية المرأة  من خلال شخصية (الكنة)، فضلًا عن روايات اخرى مثل "المستنقعات الضوئية" لاسماعيل فهد اسماعيل  و"الجسور الزجاجية" لبرهان الخطيب، والعنف تحت مسمى الشرف العائلي . 

   وتناول الفصل الثالث عنف الحرب من خلال رواية "الحافات" للروائي محمود جنداري الصادرة عام 1985، وهي تؤرخ للعنف الدائر في الحرب العراقية الايرانية، وهموم و أوجاع الإنسان ومعاناته فيها ، وكذلك رواية "ألواح" لكاتبها شاكر الانباري الصادرة عام 1995، وهي تتناول موضوع الهروب من الحرب ، التي هي أبرز مواطن العنف الحربي في تلك الحقبة. وكذلك رواية "باب الخان"، للروائية هدية حسين، والتي تحدثت عن الحرب بشكل واسع ومشاهد العنف فيها، وتشعب الصور والاحداث فيها. فضلًا عن روايات أخرى مثل "من يفتح باب الطلسم" للروائي عبد الخالق الركابي، ورواية "الخروج عن الجحيم" لناطق خلوصي،  وجلها تتحدث عن العنف ومشاهد الصراع والحرب في الساحة العراقية، وما يتعلق بها من انساق تاريخية وثقافية واجتماعية. 

ويخلص الباحث في نهاية دراسته عن جملة من النتائج، منها: أنه على الرغم من مناخ الدولة المدنية في العراق إلا أن التعصب والعنف الجندري، والتمايز الطبقي، والعرف القبلي هو السائد، كما أن هذه الروايات هي خير من يؤرشف للصراع والحرب والعنف في أي مجتمع، وخصوصًا في الثقافة والمجتمع 

العراقي. 

ولعل من نافلة القول أن هذه الدراسات وغيرها ممن يتعرض لدراسة اﻷدب الروائي العراقي من شعر وقصة ورواية، وموضوعات مصير اﻹنسان لا تقل أهمية عن أي دراسة تتعلق بتطور وتنمية المجتمعات الاجتماعية والسياسية والثقافية، إذ هي رؤية نقدية ودلالية توضح مناطق الجرح في الجسد العراقي بشكل فني وسردي مقبول للذائقة الادبية والثقافية اﻹنسانية، بل وتحدد مصدر الخطر في مجتمعات الحداثة وما بعدها ، في اﻷرشيف اﻷدبي السارد لهموم 

اﻹنسان.