عادل الصويري
كلما ارتفع الصوت الثقافي شاكياً من تهميشه؛ زادت القناعة أن ارتفاع صوت الشكوى الثقافية من التهميش، ليس سببه التهميش فقط، بل عدم جدّية الفاعلين الثقافيين، بتفعيل ممارسات منتجة تتسع مساحتها إلى أبعد من الأفق الضيق للفردية المرتبطة بالتصورات الخاطئة للفاعلية المعرفية. وفي الحقيقة أن التصورات الخاطئة هذه تدور على محور يتعلق بحالة اليأس والإحباط التي تلازم المثقفين، وكأنهم في “حالة انكشاف وَتَعَرٍّ أخلاقي وقيمي” على حد تعبير الكاتب والباحث اليمني (مصطفى البكيري)، الذي يعتقد بأن من الصعوبة على مجتمعات تعيش الأزمات السياسية والأخلاقية، أن تقدم تعريفاً أو معنىً لوصف المثقف غير القادر على ممارسات “مؤثرة تستند إلى استراتيجية فعالة وقابلة للتطبيق”.
والاستراتيجية هنا هي التي تجعل المثقف فاعلاً أولاً في إنتاج المعنى الذي يشير إلى مشاريع تنويرية حقيقية، قبل الاندماج الفعلي بواقعه الاجتماعي، وهو اندماجٌ مفقود جعلهم بلا مشروع واضح المعالم، بحيث اقتصر وجودهم على التماهي مع الظواهر التي تقترب من متبنياتهم التي أصبحت معزولة عن الواقع مثل ذواتهم تماماً، وكأنهم محاربون في “معارك خارج منطقتهم”، وبذلك هم أعجز عن طرح السؤال الفعلي قبل وجود الحلول والإجابات؛ لأنهم لم ينتبهوا إلى الخلل المتعلق بوجودهم الثقافي، المتمثل بعدم التفريق بين النتاج الإبداعي، والخطاب المؤسس للمشاريع الثقافية، رغم أن المشروع الثقافي وخطابه لا يتقاطعان مع الإنتاج الإبداعي لو كان هناك مثقف يعي دوره.
عدم التفريق هذا، أو بتعبير أدق، منهجية الفصل بين الإبداع بوصفه منتجاً فردياً، والخطاب بوصفه مشروعاً، انتهى إلى نتاجات إبداعية تتنفس في سجن كبير اسمه المؤسسات أو الملتقيات والمهرجانات التي يتناوب المثقفون على حضورها في السجنين: المحلي والعربي، ويقدمون أنفسهم من خلالها فاعلين إبداعيين لهم حضورهم الخلاّق. وفي الحقيقة لهم حضور يقتصر على مساحة ضيقة من وجودهم في سجونهم. وكلما اتسعت مساحة السجون الثقافية، وزاد عدد السجناء داخلها من المنسجمين مع رؤية وسياسة السجان الأكبر، اتسعت معها خرائط التيه الإنساني خارج السجون، والسجناء فرحون يتبادلون التهاني والتبريكات الباردة، والخالية من المشاعر، بفوز هذا في بوكر سردي، وفوز ذاك بإمارة شعر، بينما يئن الخارج من الحروب والمجاعات، فصار وجودهم أشبه بالسياسيين في مراكز السلطة وهم يتصافحون في المؤتمرات ويدلون بتصريحات حول ضرورة وقف الحروب، وإنهاء معاناة الأبرياء، بينما يحضر في المؤتمر المتسببُ في كل تلك الحروب والمجاعات. والمفارقة الكبرى هي وجود بعض السجناء الثقافيين في ذات القاعة التي يتواجد فيها السلطويون، وكأنّ السِجنين متحدان في ذات الهدف والرؤية.
فبينما يكتبُ من سجنه الـ vip الأنيق عن الحرية، وفساد السلطة، نراه أول المشاركين في الفعاليات التي ترعاها السلطة التي يهاجمها، ويفوز بجوائز الحكومة التي ملأ التواصل الاجتماعي بقصائد تخلّفها وفسادِها. وفي حال داهمه صحوٌ مباغت، سيجد نفسه أمام “فضاء مفتوح من الحرائق” على حد تعبير الناقد علي حسن الفواز، وهذا الفضاء سيجعله يعود مسرعاً إلى سجنه. وبعد أن ينتهي من كتابة مادة تنظيرية تهاجم الأصوليات، وتحتفي بلوحة تجسد امرأة عارية، وتتذمر من المظاهر الدينية التي يراها تكبت الحرية، يذهب لشراء بعض حاجات السحور لعائلته التي ستصوم في الغد.
لكن هل يدرك المثقف أنه مسجون فعلاً؟ أعتقد نعم، هو يدرك، وسعيد بهذا السجن الذي يوفر له هروباً “مدنياً” إلى تنوير مُتَوَهَّم، ومساحة جيدة للكتابة عن مفاهيم يدرك هو قبل غيره أنها انطفأت، ويوهم نفسه بفاعليتها وتأثيرها، بعدما تحول إلى بيدق ناعم ومطيع في رقعة التواصل الاجتماعي التي تحركه على مربعاتها بخفة مغناطيسية عجيبة.