رامية منصور
"يتسلل الموت إلى حياتنا، مثل رائحة تصيبنا بالدوار.."
نيكوس كازانتزاكيس
لم تفقد يومًا حماسها الشديد بتصوير معاناة العمال والفلاحين، فقد اشتغلت كاثي كولفيتز على إيقاع الحزن في تصويرها للأحداث المروعة والمعاناة الناتجة عن الاستغلال والحروب التاريخية وصولاً للمعاصرة في العقود الأولى من القرن العشرين. تبنت كولويتز، خلافًا للاتجاهات الفنية السائدة في حينها، فن الكرافيك كصبغة أساسية لنتاجاتها الفنية. كما سخرت امكاناتها التقنية والتعبيرية في الرسم، تقودها مشاعرها الاشتراكية المناهضة للحرب، لتقدم للجمهور كشفًا واضح للأسباب الجذرية والآثار الوخيمة طويلة الأمد للحروب. وقد تزامن اهتمامها بفن الكرافيك مع صعود الرسامين التعبيريين في ألمانيا، لكنها ظلت مستقلة في عملها عنهم، وشقت طريقها برؤيتها الخاصة في عالم الفن الحديث المزدحم بالرؤى والأساليب والمدارس.
يرفض أسلوب كولويتز، المتمرِّد على الفقر والصراعات، السير وفق ميلودراما غويا وأعماله الكرافيكية للحرب والتضحية المسماة بـ(كوارث الحرب)، ويركز أسلوبها بدلاً من ذلك على تجاربها ومفاهيمها الشخصية التي يمكن أن يفهمها كثير من المتلقين، لهذا لم يزل صدى إرثها البصري يتردد بقوة بين فناني الاحتجاج الكرافيكي باعتبارها فنانة رائدة حفرت اسمها في سجلات الفن الحديث في القرن العشرين.
أدى تأثّر كولويتز بالقيم الجمالية لمسرحية جيرهارت هاوبتمان حول تمرد النساجين الألمان عام 1844 إلى إنتاجها لسلسلة (تمرد النسّاجين)، وهي تعكس تعاطف الفنانة القوي مع معاناة الطبقات العاملة. تشير كاتبة السيرة الذاتية مارثا كيرنز إلى أن هذه السلسلة فريدة من نوعها كونها توثق نضال أفراد الطبقة العاملة "ينتفضون ثم يعانون من مصير انتفاضتهم" وبالخصوص دور النساء كمشاركات ناشطات في المواجهات الحقوقية العنيفة. إلا أننا نجد كولويتز قد ابتعدت عن نفس مسرحية هاوبتمان بشكل كامل، لتطلق سلسلتها (البؤس)، وأهمها لوحة وفاة طفل من الجوع والمرض إثر الحرمان والفقر الذي تعيشه أمه، والذي أطلق صرخة مدوّية لتمرد النساجين كرد فعل مباشر على حياة مزّقها تدني الأجور والظروف المعيشية غير الإنسانية.
إن اليأس والحزن هما بطلا رواية البؤس هذه وهنا بالتحديد تتركز الفكرة الجوهرية لهذا العمل الكرافيكي. الفكرة التي تسكن سرير الطفل المتوفى، تسلّط عليه مثل مصباح عظيم صدمة والدته المنتحبة الغارقة في الحزن، وهي تركع بجانبه ورأسها في يديها من الجزع. بالمقابل نرى الطفل الصغير وهو يقترب جسده من أن يصبح هيكلًا عظميًّا، وقد سبح في ضوء أبيض ملائكي ساطع يضيء الغرفة المظلمة البائسة ويضيء ذراعي الأم الثكلى. تلعب كاثي هنا على خطين الأول صدمة الموت ومأساة الأم والطفل لكنها تعود لتبعث من بؤرة الموت هذه حالة من الأمل تضيء في آخر نفق المعاناة المظلم. بهذه الطريقة الفنية تمكنت كولويتز من تقديم الطفل للمتلقي في موضع الضحية البريئة، التي وقعت تحت عجلات الظروف القهرية والسياسات القمعية التي تجابه مطالب العمال في الحقوق والعدالة في الأجور الضامنة للحياة الإنسانية الكريمة بدل حياة الجوع والمرض والموت بهذه الطريقة المفجعة. تسود العتمة من الداخل بشكل غير طبيعي تنافس عتمة أعمال الفنان الهولندي الكبير رامبرانت، بينما نرى ضوء الشمس الساطع يتوقف عند النافذة المتهالكة كما يصد الزجاج، والنافذة تفتقد الزجاج، الهواء ليترك الظلام في الداخل محتضنًا توهُّج وجه الطفل يسطع على ما حوله في المهد فيما ينزوي أباه بعيدًا وهو يحمل شقيقه، المقارب لعمره، بعينين غائمتين غائرتين في محجريهما، بينما عيون شقيقه تنظر إلى مهده بغرابة وخوف، الأمر الذي يشعرك بمدى البؤس الذي تغرق فيه هذه العائلة المسكينة التي نكبت بمظالم الاستغلال الذي لم يتوقف عند حد أو زمان وهو يحوّل الناس من ضحايا إلى مستعبدين. يقول عالم الاجتماع ماكس فيبر في كتابه الشهير (الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية): "في هذا العالم الذي لا يمكن استيعابه كلياً، وحيث لا وجود لقيمٍ مشتركة على المستوى العالمي، فإن معظم الناس تشبثوا بوظائفهم أو مهنهم، وتعاملوا مع العمل على أنه ديانة أو غاية مطلقة في حد ذاتها، لذا إذا كانت الأخلاق أو الروح الحديثة لها أساس مطلق ونهائي، فهو هذا العمل".