مرتضى الجصاني
أطلق مؤخراً الموسيقار نصير شمه ألبومه الجديد “أبواب” الذي يحوي عشر مقطوعات موسيقيَّة على مقامات مختلفة جاء في تقديمه للألبوم: “أبواب هي مداخل للروح، تجرّد من المُعاش وانتقال إلى حياة أعلى، رؤية صوفية تستهدف الرؤيا بمعناها الأكثر عمقاً. باب يُغلق فيُفتح آخر. رحلة بحث عن شعاع أو ضوء صغير حتى لو كان في كهف معتم. رحلة نور غامر وحياة موازية تُصالحنا مع أنفسنا ومع الآخر. ليست انسلاخاً إنما بحث حثيث للوصول إلى نشوة الروح الأعلى”، وقد وضع وصفاً صوفياً لكل باب أي لكل مقطوعة.
لكني أود أن أضع وصفاً سماعياً روحياً بعد سماعي وإنصاتي في حضرة الأبواب العشرة، يخال لي دائماً أنَّ نصير شمه يعزف في معبد بابلي. موسيقاه تمكننا من شم نسائم ظل المعابد البابلية وسماع صدى جدرانها في هذا الألبوم ينطلق نصير من صوفية راسخة قديمة قدم حضارة العراق، ولا يفوته أن يمر على وصف الأبواب في الصوفية وكأن هذا الجسد هو منزل وسجن أحياناً لا خلاص منه إلا بهذه الأبواب لكنها موصدة لا تفتح إلا لمن انكشفت له بصائر القلب وبصيرة الروح وذاق من عذاب هذه الحياة ما يكفي ليزهد بها للوصول إلى النور، في باب الأمل وهو الباب الأول من مقام العجم يطرق نصير الباب متعباً من هم كبير يرهق الروح، لكنْ ثمة أمل وهذا الأمل مصحوب بترقب بتأمل حيث يأتي ويخفت موسيقياً يرافق هذا الأمل حالة من التفكر، ومع كل نغم في هذه المقطوعة نستشف أنَّ الأمل يرافقه شجن أو حتى حزن إنه أمل بالخلاص والتوق إلى سكينة الروح.
في باب الحضور وهو من مقام (كرد لا) وهو كما اسمه يقال إنَّ الحضور هو حضور القلب وغيبته عمن سواه وإذا حضر القلب ظهر على الجوارح.
يقول ابن عربي: “لا غيبة إلا بحضور” ولا يأتي الحضور إلا بالخلوة وهي ما نتذوقه في هذه المقطوعة منذ البدء حيث تتغلغل مثل ضوء للقلب، يجعل القلب ينبض أحياناً تتسارع ضرباته وأخرى تسكن وطالما كان هناك حضور.
لابد من غياب وهو الباب الخامس الذي ينفتح على الغياب وأي غياب؟ لعله غياب كل شيء وحضور القلب ومن اللطيف أن تكون هذه المقطوعة على مقام المخالف الذي ينزف شجناً وحزناً وبطريقته المميزة يعزف نصير بأطراف أنامله حزناً رقيقاً لا يشعرك بثقله ولا بحراجته في التعبير عن الحزن وإنما حزن أنيق وشفيف في صياغته عميق في جوهره.
أما في باب المعرفة والذي كان من مقام الرست فقد جاء كما وصف نصير مقام الرست بأنه وطيد ويفضي يتزاوج هذا المقام مع معنى المعرفة حيث أضفت المعرفة حكمة في سماعها وتعقلاً ووعياً يسير على الوتر بهدوء وثقة، حيث تبدأ باب المعرفة بحضور حكيم واثق في الإيقاع ثم ينفتح على فضاء رحب من الحكمة، تتراقص النغمات فرحاً بإيجاد المبتغى ثم تسكن كأن تتأمل شيئاً غامضاً.
وأما الفناء فإنه تحول الروح إلى موسيقى حيث تفنى وتكون نغمة من مقام البيات مقطوعة من ست دقائق ونصف الدقيقة ينفتح هذا الباب على الغيب والمطلق وهي رحلة الروح من المادة إلى النور متخففة من أعباء هذه الحياة مترفعة عن المادي إلى السمو، لا جديد بأن يعزف مقام البيات بأشكال مختلفة لكن المختلف هو إعادة صياغة القوالب الموسيقية وتطويعها بالطريقة التي يريدها العازف، وللحلم باب رغم كل ما نمر به من إحباطات فردية ومجتمعية ومقامه (نهاوند لا) وما الحلم إلا نهاوند.
يبدأ باب الحلم بترقب هادئ ثم يتصاعد إيقاع الحلم وتأخذه حماسة الحلم للركض نحو الباب الذي يراد له أن يكون الضوء القادم من آخر النفق ثم يفرح كأنه حقق أمنية غالية ثم في باب الرؤيا لا يكتفي شمه بتحقيق الحلم بل يريد لنا أن نرى ويعلمنا أيضاً كيف نرى من خلال الصوت والموسيقى فقط في باب الرؤيا من مقام (كرد دو) نافذة ومن ثم باب الرؤيا وكأن المقطوعة تقول لنا إنَّ القلوب إذا صفت رأت هي نقاء البصيرة أن ترى بقلبك من خلال مقام كرد ذلك صياغة أخرى للمقامات الثابتة.
وما العشق إلا نهاوند وفرحفزا إنه الباب الثامن الذي يطل على العشق وروح تحترق ولهاً بالحبيب ولا دواء للشوق إلا الاحتراق في نغم فرحفزا.. وهكذا يدخل نصير إلى باب الحنان الكبير من مقام سيگاه الذي أسماه باب الأم ولعله يقصد الأم من مفهومها الواسع الذي لا يحده شيء مترام متماه مع أطراف هذا الكون البعيد الشاسع، ويختم نصير أبوابه بباب الرجاء من مقام الصبا، الذي يرافق كل توسل وحسرة في القلب ورغم الأسى الذي يتغلغل في هذا المقام إلا أنه شجي للحد الذي يجعلك تعشق حزنك، هذه أبواب نصير العشرة التي جعل منها أبواباً للنور. ما يمكن أن نرصده في هذا الألبوم هو المسحة الصوفية الطاغية على كل مقطوعات الألبوم ورغم أنَّ نصير لم يتخل عن صوفيته في موسيقاه السابقة كلها إلا أنَّ هذا الألبوم يخلو تماماً من حالة الطرب الغنائي ويكتفي بالموسيقى التأملية التي تجعل المتلقي يحلق فوق السحاب، توليفة المقامات المختارة جعلت الألبوم يشع صوفية وحالة من الزهد الدنيوي انعكس على موسيقى الألبوم التي جاءت خالية من التكلف والبهرجة والزخارف.