د. سعد عزيز عبد الصاحب
اتخذت الظاهرة المسرحية شكلاً جديداً في وعينا المعاصر لم يعد معه المسرح أدباً إلا في حدود تاريخية ضيقة وضمن تناول منهجي محدد ، فلم يعد تأريخ المسرح تأريخ أدب متمتعاً بأسبقية مطلقة ، بل صار تأريخ المسرح الأدبي واحداً فقط من التواريخ التي ينبض بها تأريخ المسرح عموماً إلى جانب تاريخ الإخراج والأزياء والديكورات والمناظر وتاريخ الأداء المسرحي ومن منظور أكثر شمولاً : تأريخ العرض المسرحي ..
إننا بصدد التحوّلات الكبرى داخل الممارسة المسرحية التي طالت القرن العشرين مع كل ما عرفه من تحوّلات سياسية وأيديولوجية وجغرافية وثقافية كبرى، عصر المخرجين والمعلمين والباحثين المجدِّين الكبار، والذين تحقق لديهم الوعي بعدم وضع فواصل ما بين التجريب والممارسة أو التنظير، لكن على وفق قواعد يلزم خلقها في تماهٍ مع ثقافات الغير، تقليص حدود الأنا بالانفتاح على الآخر، عصر طرحت فيه أغلب الأسئلة التي غيَّرت دفَّة المسرح الغربي بعد أن أصابه العقم والنضوب، متخلياً عن الهواجس الأدبية والسياقات (الأرسطية) السالفة، في سبيل إيجاد لغة جديدة لغة بديلة، ولربما فن بصيغ متعددة، وأسئلة لم يتم طرحها من قبل، كل ذلك من أجل تقليص (التفاوت الهائل في الحيز ما بين المحلية العتيدة والحجم الرهيب للعالم كله ) كما يعبر الباحث الإيطالي (دان ريبيلاتو) في مضان كتابه المعروف (المسرح والعولمة) .. حقيقة لا توجد تفاصيل وثنايا هذا التحول في رحم التجربة المسرحية الأغريقية التي افترضت جينالوجيا الأشياء في المسرح وأصولها التي من الصعب العبور عليها أو محوها وإنما في ثنايا الفرجات التقليدية التي تخصُّ ثقافات العالم، على أهمية تنوعها وتجذُّرها الأصيل في وعي شعوبها، إذ ستدير أسئلة القرن العشرين دفّتها الجمالية نحو المتلقِّي ونحو الممثل وتعيد طرح سؤال الفضاء وحدود المتخيِّل بالواقعي، الحقيقي بالوهمي، دون الحاح على التمسُّك بماضٍ تليد وزهوٍ سالف، إذا ما تجاوزنا المسارح الرسمية، بل إن الرغبة الأكيدة يعوزها الانفلات من النمط الذي حددته أيديولوجيات صارت عقيمة، خاصة بعد نكسة (عصر الأنوار) وتفشِّي الحروب المدمرة، وتقوي الدكتاتوريات، وانكفاء الكائن داخل عزلته، واغترابه عن كينونته الجريحة، وتبدّد الأحلام التي وعدت بها الحداثة والتقدم والعلم، داخل عالم يحكمه منطق السيد والعبد، إذن سيتم التنقيب بعيداً عن مدار ما تمت معرفته، عبر تقصِّي لغة كونية جديدة، وعبر النبش عن الوسائل وأساليب التعبير التي لم تطرق بعد، الأمر الذي ستطوره المختبرات اللاحقة عن وعي بأن التقنية الواعية والعمل الشاق والتجريب والبحث عن صياغة جديدة للغة الممثل سيكون قوامها محو ما تمت معرفته من قبل ونسيانه، ذاك كان هدفاً مشتركاً لم يختلف عليه مجموع المبدعين الطليعيين على الرغم من اختلاف أساليبهم وتصوراتهم ورؤاهم عن مسرح الغد : ستانسلافسكي، مايرهولد، برخت، غروتوفسكي، يوجينيو باربا، بيتر بروك، جوزيف شاينا، اريان مينوشكين وغيرهم .. لقد وضعوا الممثل في قلب الحدث، ليس مجرد وسيط ما بين المؤلف وجمهوره، بل كياناً مستقلاً مبدعاً يطور خبراته بالعمل الممنهج الدقيق دون الامتثال لنمط محدد، وسواء كان الأمر فنياً أو تقنياً، بل ومن خارج النمط الغربي، ستكشف الهوامش / المستعمرات عن عراقة فرجاتها، سواء في أمريكا أو أفريقيا أو آسيا تلك المستعمرات التي تمت إعادة ترسيم خرائط جديدة لها، بعد أن اقتسم الغرب كعكة العالم، ومن ثم تشكلت جغرافيات جديدة لثقافات اكتنزت بفلسفات تقيم التوازن ما بين الروح والجسد، تكون الفرجات والاحتفالات أحد تعبيراتها الثقافية الصرفة، وسواء تعلق الأمر بأبعادها الدينية أو الدنيوية فإنها تبقى متأصلة وعريقة، ومن الجدير بالذكر أن فرجات المسارح في الشرق لا تقوم على ما هو أدبي، لكن عروضها تشكل وحدة متماسكة ينتظم داخل نسيجها ما هو شعري بما هو رقص وغناء وموسيقى وأزياء وماكياج وأقنعة، سواء حملت تلك الفرجات سمة القداسة داخل شعيرة دينية أو تمثلت كفرجة دنيوية، ستصير آنفاً هي المورد وأصل الخبرة التقنية التي نحتتها القرون، عبر التدريب اليومي للممارسين وبوعي راسخ بأهمية الشيخ والمريد، وسواء تعلق الأمر برقصات الكاثكالي الهندي أو النو والكابوكي الياباني أو الأوبرا الصينية، فإن فلسفة هذه الشعوب في التعلم والتدريب هي مفتاح لمستقبل المختبرات والمدارس المسرحية الغربية عبر التبني لفلسفة لا تستخف بما تؤمن به، فقد باتت الحاجة ملحة لرسم لغة أخرى يأخذ فيها الجسد أولويته كنص، ولكي يصير بليغاً ما على المبدع إلا أن يهذِّبه ويطوِّعه لكي يتقن ما يقول ويكون سيّد ما يفعل وسيّد معنى المعاني ودلالاتها المكتنزة .