جينا سلطان
إذا استبعدنا التفسير التوراتي لكلمة عبراني وحاولنا التماس المعنى الكامن بين طيات العبور؛ ألا يدرك بوصفه انتقالا من عتبة منخفضة طاقيا بسبب الجهل وقلة النور والعرفان، نحو صيرورة أكثر اكتمالا وقربا من الأنوار القدسية، المرتسمة في حيواتنا ككواكب نيرة تضيء ظلام القلوب الوحشية؟ بالمقابل، أليس الارتحال بين الأحوال ديدنا للنفوس القابلة للاتساع، فتتقلص فيها المساحة القائمة بين العقل والإيمان، ويسقط عنها عبء التيه؟
ومع أن جميع المخلوقات محكومة بالسجود لله طوعا أو كرها، وبالتالي فالكل مسخر لأمره، إلا أن بني آدم كرموا بهبة التمييز، التي تقترن بحرية الاختيار؛ فـ "من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر". وفي الوقت نفسه، ليست هناك ضمانة بأن نعيم الدنيا من نصيب المؤمن الصابر والمجالد لنفسه، بل بالعكس ثمة الكثير من الجاحدين الذين لم يمتنع عنهم نعيم الباري وإحسانه رغم إنكارهم لفضله. ومن خلال جدلية القبول والجحود يعبر الشيخ العربي عابر بالفتى العبراني شمعون من منازل التيه إلى منزلة من اليقين، ما كان ليبلغها لولاه.
بنفس إسلامي واضح تقوده بصيرة ثاقبة، يُسقط الطبيب والروائي المصري عبد الرؤوف الشاذلي في روايته أوراق شمعون المصري سؤال الجبرية والاختيار في قلب التيه الذي فرضه الرب على بني إسرائيل، ليقارب ببراعة معركة العقل مع الإيمان. مبتدئا إسفار الغربة عن منتهاها وغايتها بتلميح مبطن على لسان الراوي شمعون بأن "كثرة الخضوع والمذلة لا يورثان قلب المرء شفقة وعطفا، وإنما يملآن قلبه غلظة وقسوة، واستكبارا على من هم دونه".
وهو حال بني يعقوب الذين عاشوا مئات السنين في كنف أهل مصر يرتوون بنيلها ويستظلون بأشجارها حتى سكنت قلوبهم، واطمأنوا إلى النعيم وألفوه، فحق عليهم الارتحال بحثا عن جوهر الإيمان المتحرر من الجمود الذي يرتبط بالحنين إلى الأمكنة وما يقترن بها من تعلق مفرط بالأشياء. وبذلك ينهض التيه في الرواية معادلا للاغتراب عن النفس المتقوقعة ضمن طبقاتها المتراكبة، بحيث تعود القلوب الغارقة في سكونها وركودها إلى فطرتها المجبولة على الحركة والتنقل.
تبتدئ أوراق شمعون، الذي لقب بالمصري نسبة إلى أمه، بتساؤلات يجريها على لسانه وهو حديث العهد بتعاليم الشريعة، موجهة إلى أبيه التقي زخاري. ومنها لماذا لا يؤمن بنو إسرائيل إلا بعد أن يروا العذاب الأليم؟ ولماذا يُكرهنا الرب على عبادته ما دام غنيا عنا؟.
أمثال هذه التساؤلات جعلت شمعون يشعر منذ الصغر أن كثيرا من قومه يخشون الرب خشية العبد المكره على طاعة سيده، تلك الخشية التي تمتزج بخسة العبد الآبق، الذي يسيء الأدب إذا ما أمن من العقاب. وهو اعتراف سوف يلقيه أمام مسامع الشيخ الحنفي عابر، مقترنا بمحاولة تفسير قسوة زخاري حين غافله فتاه شمعون وذهب لصيد السمك: لماذا لا يرى أبي من الدنيا إلا شظفها؟ ولماذا كتب على نفسه وعلينا ذلك الخوف من البهجة والفرح؟.. أسئلة تربط الإيمان بالخوف، وتجعله شرطا أساسيا للحب: "إذا خفت الرب فسوف يحبك وإذا أحبك فسوف تحبه".
انتهى حلم زخاري بدخول أرض الكنعانيين بسبب إيمانه المجبول بالخوف، فسقط ميتا حين تلقى من نبي الله موسى نبأ التيه المفروض على بني يعقوب لمدة أربعين عاما، والذي سيمنع كل ذكر تجاوز العشرين من عمره من عبور مخاضة الشك نحو طمأنينة اليقين، باستثناء "الفتى" يوشع بن نون. وفي هذا الصدد يتساءل شمعون عن مبعث قسوة الرب على قومه العصاة الذين تجلى تمردهم بأبشع صوره في العجل الذهبي وبإخوة عامير من آل بنحاس حين مسخهم قرودا ليكونوا آية لأقرانهم؛ "ألا يستحق العصاة توبة؟ فتأتي الإجابة حاسمة: "التوبة لمن يجهل!.
وبالتالي تتحدد أوامر الاتصال بالخالق لكل فريق وفقا لنسبية الجهل والشك؛ "إن الله يتجلى علينا كيفما نره". وهي عبارة وردت على لسان الشيخ عابر، كتفسير لاختلاف طرق الاتصال بالخالق الواحد، وفي الوقت نفسه تقدم مدخلا لمعاينة التيه الذي يصبح مرادفا لحياة تعتاش على آمال ووعود كاذبة، وشعوراً وهمياً بالاقتراب من الهدف سرعان ما يطوقه الابتعاد السريع عنه، وكأن الشاذلي يسعى لمعاينة السراب المعاصر الذي يحاصر النفوس المستنزفة قهرا وذلا.
تتأطر سُدم العماء في الرواية بمدينة بصرى الواقعة تحت حكم الملك هدد بن بدد الإدومي، الذي دفع مرتزقة كنعانيين للسيطرة على أسواقها عبر الأتاوات وفرض الاتجار بالسلاح والجواري والخمر. وعند احتجاج شمعون على خنوع الناس يحسم الشيخ عابر الجدل بالقول الناس على دين ملوكهم: فـ "في دولة العدل يصير الكل عادلا. وفي دولة الظلم يصير الكل ظالما.. لم يرد الناس الظلم على الظالم بل تناقلونه بينهم. حتى أصحاب المروءة والكرم تكبلت أيديهم بالوشاية والفتن حتى أمسك كل ذي فضل عن فضله". وهذا التناقل للظلم بين الناس يوهمهم بأن التيه يتلاعب بهم في كل أمر من أمور حياتهم، فيتأبد تعلقهم بالصغائر، ويستولي السكون (الموت) على صيرورتهم ومنتهاهم. لذلك يدرك شمعون أن شرطية الحياة مرهونة بالاختيار، وأن "التائه" في الحياة هو ذاك العاجز عن الاختيار.