زهير الجبوري
لَمْ تكنْ تجربة التشكيلي العراقي الراحل كامل حسين سوى محطات تتمتع بمغامرة لذيذة اشتغل عليها بين الحين والآخر، فهو يعد من أكثر التشكيليين العراقيين تواصلا وحضورا في تجربته الفنية من خلال التفكير والأمساك بثيمات جديدة يستولدها لحظة البحث عن عوالم اللوحة، وكما هو معروف فأنه من أبرز فناني جيله في التعامل مع الألوان بوصفها عنصرا مكملا لوحدة العمل لديه، والمثير في الأمر أنه يغور كثيرا في وحدته المضمونية داخل كلّ لوحة، الأمر الذي جعله يشتغل على مغايرة الشكل في "أعماله على وجه التحديد" مع الاحتفاظ باسلوبه التجريدي المعروف..
تابعت أغلب تجاربه في العقدين الأخيرين قبل رحيله سواء على مستوى المعارض الشخصية اوعلى مستوى مشاركاته الجماعية، فمنذ معرضه الأول في العام 1975 في مدينة البصرة، وصولا إلى آخر معرض أقامه في جمعية التشكيليين العراقيين/ المركز العام في العام 2017 وهي الفترة التي شهدت وفاته، إلاّ أنَّ عائلته الكريمة قدمته بعد أن كان على أتم الجاهزية، ليشهد إقبالا كبيرا حينها.
أعمال الفنان كامل حسين، بخاصة تجاربه في المعارض الشخصية الأخيرة تنطوي على تراسل لمنظور بَصَري لثيمة الجسد وما يحمله من أبعاد جمالية دقيقة، فالجسد الأنثوي عنده يشكل علامة جمالية مستخلصة من فلسفة خاصة، لذا نجد قوة السطح التصويري لديه تتناظر مع طبيعة الألوان التي يستخدمها "الحارة والبارزة والمضيئة" في الغالب.
في الحقيقة هو جدل مضموني مدروس، ولأنه يشتغل على موضوعته التجريدية المعروفة، فقد أخذت منه بعدا في التلاعب بثيمة الأشكال، وهذه الميزة عبرت عن نضجه في التعامل الحُرّ في أبعاد اللوحة التشكيلية ذاتها، بمعنى أنه يقوم بتحولات محسوبة بين تجربة وأخرى مبررا ذلك بالمغايرة وعدم تكرار ما مطروح سابقا.
ما يمكن الأمساك به أيضا في تجربة هذا الفنان أنه لا يقتفي أثر الأشياء المألوفة والمتكررة عند الكثير من فناني جيله أو غيرهم، بل تتصاهر عنده كيميائية الأشكال لتنتج بالنهاية مشروعه، وفي حوار سابق معه "رحمه الله" في مشغله وسط مدينة بغداد وكان على استعداد لأقامة معرض شخصي تحدث بأنه سيقدم هذه التجربة مشيرا إلى أن أعماله جاهزة للعرض، ثم بعدها سأبحث عن أسلوب آخر في تجربة لاحقة لا يقترب من طبيعة الأشكال هذه مع الاحتفاظ بوحدة الموضوع التجريدي، وبالفعل استطاع أن يغور بتفاصيل الأشياء والثيمات التي اعتاد أن يتعامل معها، ذلك لأنه كثير الاطلاع والقراءة في مجاله التشكيلي.
لوحاته تستنهض فعل الأسئلة لما تقدمه من أشكال تجريدية فيها تحولات متواصلة، فهي مشروع توالدي يطرحه عبر اسلوبه التجريدي، فيه من الشاعرية الكثير، والاّ ما معنى أن تكون اللوحة ذات البعد التجريدي للأجساد وهي مكتملة الأبعاد، تتشظى في تجربة أخرى، هذه الكشوفات تعطي جرأة كبيرة في المغايرة، لأنه يدرك أن ثوابت الأشياء لا تطرح ما هو جديد بقدر ما تعطي تراكما جماليا، فالعمق في تفاصيل العمل الفني يأخذ على عاتقه قوة التفكير، وما على المتلقي الفاحص والمختص سوى الوصول إلى ابعد نقطة يريدها الفنان، لأنني باختصار ألمس مدى عمق ما يرسمه حسين عبر قراءات عديدة يطرحها، كما أشعر أنه يثير المضمر في الجسد الأنثوي عبر غواية واضحة من خلال استخدامه الشهي لّلون الأحمر (مثلا)، والألوان الأخرى من ذات العائلة، إلّا أنه مازج ذلك بألوان قانية شكلت ما يسمى بـ (كونتراست)، مع الأخذ بدلالة المضمون وبعده الجمالي، ومع أن ولوج ما قدمه في كل لوحة، فقد أخذ على عاتقه مسحة التفكير بالمضمون، وكأنه يقرأ انثروبولوجية الجسد بتفاصيل جزئية، وهنا أعني في تجربته الأخيرة التي قدمها في معرضه الشخصي الأخير، ما أثارت علامات استفهام لدى الجميع ممن تابع أعماله، وكانت مجمل هذه العلامات تأخذ على عاتقها السؤال الجوهرة، إلى أي مدى يريد الفنان الوصول إلى الأشياء في الثيمة الجسدية اوغيرها..؟
تبقى تجربة الفنان التشكيلي الراحل كامل حسين واحدة من التجارب الفنية التي شكلت حضورا بارزا وملفتا للنظر، وكانت لديه الكثير من الأفكار التي يرغب بتطبيقها في مشاريع خاصة، غير أن مشيئة الخالق أوقفت ذلك، والأثر الذي قدمه من أعمال لا يزال حاضر بيننا ولا تزال لوحاته تتداول في الوسط الفني.