علامات الاحتلال في الشعر المعاصر

ثقافة 2024/04/29
...

  د. كريم شغيدل

 لقد شاعت في شعرنا المعاصر مفردات مرتبطة بالاحتلال، هي وليدة مظاهر الحرب والغزو، كأسماء العربات والأسلحة وصنوف الجيش، كقول الشاعر مجاهد أبو الهيل:
{بين جنود المارينز
شاهدت حبيبتي
التي أضعتها منذ حروب}.
وهذا النص على قصره يختزل تاريخاً كبيراً من العنف، فالحبيبة المضيعة منذ حروب تأتي مع جنود المارينز، ربما هي رمز الحرية المضيعة بسبب حروب طائشة لا معنى لها، هي ليست مجندة أميركية كما قد يقرأ النص ظاهرياً، وليست أسيرة بيد المارينز كما قد يوحي النص، بل هي الرمز "الحرية" التي أضعناها في خضم حروب عدوانية مع الآخر أو مع السلطة الاستبدادية أو مع الذات، فإلى جانب الحروب المعروفة للنظام الدكتاتوري السابق، كانت هناك حروب خاضها الشاعر بوصفه ذاتاً مع اليتم بعد إعدام والده نتيجة معارضته للسلطة، وهناك حرب الغربة التي عاشها منفياً خارج وطنه، وكأن الشاعر أراد القول بأنه لم يكن يتمنى أن يرى حبيبته "حريته أو خلاصه" المضيعين بين الحروب في حرب أخرى جديدة.
إنَّ مفردة "المارينز" لم تكن شائعة في لغة الشعر قبل 9- 4- 2003، وكذلك مفردة "الهامفي" التي وردت في بعض قصائد عبد الزهرة زكي، وقد استعملها الشاعر زيارة مهدي بمنطوقها العامي "همر" ليوظفها بدلالة متبادلة مع مفردة "همر" أخرى تعني أحد أنواع أجهزة "الموبايل" التي دخلت العراق بعد التغيير، إذ يقول:
"وأنت.. يا مزارُ.. ماذا تريدُ..؟
أريدُ همراً.. يا أبي
همراً..، تريدُ مني.. يا مزارُ..
    ألا.. تكفيكَ..    
    هذي البلادُ التي..
    في كلِّ طرْفٍ بها همرُ..؟".
في هذا المقطع يلعب النص على المفردة من حيث دلالتها المتداولة، فهمر تعني العربة العسكرية الأميركية، وتعني نوعاً من الهواتف الخلوية، كما يلعب عليها من حيث دلالتها الصوتية في استحضار بيت شعر مشهور لجرير يقول فيه: " إنَّ العيون التي في طرفها حور.."هَمَرُ- حَوَرُ" كما يلعب على مفردة "طرف" التي تعني في بيت جرير العين، وتعني في نص زيارة مهدي بعد إضافتها لـ "كل", "المحلة" باللغة الدارجة، أو أطراف البلاد عموماً، للدلالة على هيمنة مظاهر التسلح.
انعكست علامات العنف على مساحة واسعة من الشعر العراقي المعاصر، فنجد من يوظف الواقعة في صياغة عنوان مباشر لقصيدة غير مباشرة، أعني غير مباشرة في توثيقيتها، لكنها تحاكي مشاعر الألم الناتجة عن أعمال العنف، فالشاعر علي وجيه- على سبيل المثال- يزاوج في عنوان إحدى قصائده بين التوصيف الإعلامي لأيام الأسبوع وواقعة "كنيسة سيدة النجاة" فيعنونها" أيّام الأسبوع العراقي/ عن الأيّام الدّامية، وكنيسة سيّدة النجاة. ويقسم نصه الشعري إلى سبعة مقاطع معنونة بحسب أيام الأسبوع، يبدأ المقطع الأول "السبت" بعبارة "ئيلي، لم تركتني وحدي؟" وهي العبارة ذاتها التي ينتهي بها المقطع الأخير "الجمعة"، يقول في المقطع الأول:
"ئيلي: لِمَ تركتَني وحدي؟
ئيلي: لِمَ انكسرتَ في الإسفلتِ صُراخاً؟
ئيلي: نبت الصليبُ انتظاراً بكفَّيَّ وأورقتا كُتباً فارغةً
ئيلي: الهابطون إليك استراحوا،
وحدَنا بقينا نُناديهم،        
نمدُّ حبلَ الصراخِ، يعودُ إلينا ينزُّ دماً (عتيقاً- طازجاً)...
ئيلي: سنهبطُ أيضاً...
فالأرضُ ملكٌ لأولادِك الهاربينَ من يديكَ، نحو مُتعةِ خلطِنا
باللافتات".
إنَّ هذا المقطع مفعم بالأسى، وهو يوظف الواقعة في خطاب شعري يحاكي المأساة، فالسؤال الأول "لم تركتني وحدي؟" المسبوق بصيغة الندبة "ئيلي" مشحون بوجدانية رثائية، أداة الندبة هنا محذوفة، مقدرة بحسب السياق، وهي دالة هنا على الحوار الأحادي المقطوع مع الغائب، وهي من صيغ التداول الرثائي في المآتم، لا سيما على لسان النادبات والنادبين، وهذا ما يجعلها مثيرة لمشاعر الأسى والحزن العميق، وإذ تلحق الندبة بسؤال ذي محمول وجداني، على الرغم من تداوليته وتكراره، تصبح العبارة المركبة علامة دالة على واقعة لا يحتاج النص إلى توثيقها، لا سيما أنَّ العنوان كان موجِهاً قرائياً دالاً عليها، ولم يقف النص عند مفتتحه الرثائي المباشر، وإنما تكررت الندبة "خمس مرات" لتشحن النص بطقوسية تستحضر علامات المكان- الحضور/ الغياب- الهوية- الأنا/ الآخر- من خلال ثيمة الهبوط ذات الإيحاء الديني.