رواية السيرة.. صناعة التاريخ الموازي

ثقافة 2024/04/29
...

  حسن الكعبي

رواية العقاب للطاهر بنجلون تتموضع ضمن تجنيس أدبيات السجن الذي يوثق حالات التعذيب الوحشي ويفضح المستوطنات العقابية التي تديرها السلطة من منطلقاتها الفاشية، ومن ذلك فأن رواية {العقاب} هي توثيق لحالات الاعتقال السلطوي العصابي المتوثب للقضاء على مطالب الحرية. فالرواية في سياق ذلك هي صناعة تاريخ موازي للتاريخ الرسمي وتاريخ مضاد لتواريخ السلطة, وبالتالي فهو تاريخ فضح وجه السلطة القبيح واسقاط اقنعتها, بل واسقاط الجدران السيمكة التي تتحصن السلطة خلفها لادارة العنف بكامل وحشيته وعدته العقابية.

 فالرواية من هذا المنطلق تضع القارىء في مسار الاحالة من المتابعة الشغوفة بجماليات السرد الى العناية بالقضايا الإنسانية الكبرى التي يمثل اطرافها المجتمع المقهور والسلطة المستبدة بمعنى أن الهاجس الروائي يتجاوز البناءات الفنية لصالح البناءات الفكرية والمفاهيمية - وذلك ما ي يؤكده المؤلف. ففي حديثه عن رواية العقاب يقول الطاهر بن جلون "اتخذت قراراً أدبياً بأن أحكي ما جرى في زمن الحاضر بطريقة واقعية بلا رتوشات أو محسنات. وأن أرويها كما حدثت في وقتها، يوماً بيوم، دون أن يكون لنا أدنى علم بما سيصيبنا في اليوم الموالي" - بمعنى أنه يحاول ان يجرد الرواية من طابعها الادبي واغراقاتها الجمالية ومستوياتها البلاغية ليمنحها صفتها التوثيقية الواقعية، ليوجه وعي المتلقي الى واقعية الحدث -  ورغم ذلك فان التوجيه هذا لم يجرد الرواية من عناصرها الاساس في بنائاتها الفنية، بل أن فضائها الفني في تشكيل الاحداث كان حاضرا بقوة داخل المتن السردي، مما يجعل من الواقع بمثابة المتكأ لتشكيل النص الروائي، حيث تحتل العناصر الفنية فيه موقعها وبشكل خاص - عنصر الزمن - بوصفه العامل التاريخي المحرك للاحداث والشامل لتتابعها, ومن هنا فان الزمن هو التأطير الشامل لسيرورة الاحداث وبناءاتها الفنية وعناصرها الجمالية.
فالراوية تحكي - بحسب التوجيه التعربفي بها والمثبت على الغلاف الاخير للرواية -  قصة أربعة وتسعين طالباً – الطاهر بنجلّون واحدٌ منهم – سُجنوا مدّةَ تسعة عشر شهراً، تحت حكم الحسن الثاني، عقاباً لهم على التظاهر سلميّاً في شوارع المدن المغربية الكبيرة في (مارس 1965). يجد أولئك الطلبة أنفسهم، بعد أشهر قليلة، مسجونين داخل ثكنات، بدعوى الخدمة العسكرية، تحت نير ضباط تابعين للجنرال أوفقير، مكلَّفين بـ ”إعادة تربيتهم”، يسومونهم العذاب، والإذلال، وسوء المعاملة، ويقودونهم إلى مناورات خطرة بذرائع عبثية. ولم ينتهِ عذابهم إلا ببداية التحضير لانقلاب عسكري، انقلاب الصخيرات في 10 يوليو 1971، حيث أُطلق سراحهم من دون أيّ تفسير.
الزمن والزمن المضاد
إن الفضاء المشكل لمتن السيرة الروائية متجذر في زمنها باعتبار أن الزمن في هذه النوعية من روايات السيرة ينهض على الزمن الفعلي وزمن متضمن هو الزمن النفسي للشخصيات, وفي الوثيقة السيرية أو رواية السيرة كما هو مثبت في العنونة الثانية للغلاف الافتتاحي، والذي يشمل مفردات رديفة للعنوان التوجيهي، كالحاشية المطروحة كافق قرائي في عملية التوجيه “كان العقاب رهيباً” أو“انتظرتُ خمسين عاماً لأتمكن من تأليف هذا الكتاب”، يحضر الزمن فيها  بشكل فعال ضمن الاحداث الواقعية التى جرى تحويلها الى سيرة روائية من منطلق تطابق حياة الراوي المتموضع في السيرة مع حياة المؤلف الذي اختبر الاحداث بتواريخها الحقيقة  منذ عام ( 1965 والى 1971) وبينها الشهور التي قضاها الطلاب تحت سطوة التعذيب.
بمعنى أن هناك زمن فعلي طويل يشمل أمورا عدة لمسرات واوجاع المجتمعات في تجربتها مع السلطة المستبدة لكن هنالك زمن مقتطع من هذه السيرورة التاريخية هو الذي سيحظى بالتوثيق هو زمن الاعتقال المحدد بعدة شهور، وهو ما نشير اليه بالزمن النفسي الذي يضم تداعيات السارد، وعذابه وممارسة العقاب الوحشي الذي وقع عليه، وتغيير ملامح شكله وأثر هذا التغيير الجسدي على سايكولوجيته - وذلك لأن روايات السيرة تتخذ من الجسد مركزا قي انتهاجها السردي - وكذلك حنينه للاسرة والحبيبة، والتداعيات في مناحي الذاكرة لتفاصيل في الزمن ترجع حتى لطفولته. كل ذلك يوسع من رقعة الزمن الفعلي، بمعنى أن الزمن هنا يكون أكبر من التاريخ الفعلي الذي يضمه، نتاج شمول الزمن النفسي لحياة الرواي في حين أن الزمن الفعلي هو تاريخ لجزء من حياة الراوي، ويتساير مع هذا الزمن زمن آخر هو الذي يؤرخ لانتكاسة حزيران، كمؤشر على انتكاسة الذات العربية بفعل الممارسات السياسية لانظمتها السلطوية. وفي ذلك يسعى الكاتب لأن يدين السلطات العربية المستبدة ويجعل من تاريخ الانتكاسة العربية مساوقا لانكساره الذاتي في مستوطنات العقاب الرهيبة، لتكون بذلك الرواية السيرية وثيقة مهمة في ادانة تاريخ الاستبداد السياسي، ووثيقة تؤرخ للموقف النضالي في مواجهة هذا الاستبداد الذي عملت راوية العقاب على فضح بطانته الدموية.