محمد طهمازي
“نحن نلجأ للنشاط الذهني حينما نريد أن نجعل من تحقيق الأشياء في العالم الخارجي واقعاً، عبر تنظيم مجتمعنا وتطوير تقنياتنا في الحياة، هذا يخالف العيش داخل الأسطورة، التي هي ذرائعية بالأساس، لأنها تعود بنا دائما إلى الوراء، إلى العالم الخيالي للنموذج المثالي المقدس أو إلى الجنة الضائعة” يحضرني تنظير كارين آرمسترونغ هذا وأنا أتأمل كيف يستدرجنا صبري منصور بلوحاته، التي تسيطر عليها الألوان الباردة، مع دخول خجل لبعض الألوان الدافئة، في تجاور غالبا ما ينتهي به المطاف إلى الرمادي.
لوحات أجدها متأثرة في بنيتها المعمارية الفنية بالإنشاءات التشكيلية للفنون القديمة في حضارتي وادي الرافدين ووادي النيل، واللتين تعتمدان الخطوط المتراكبة مثل ورقة دفتر الكتابة لتعبر عن المنظور، فيكون الخط الأرضي هو الأقرب يليه الذي فوقه، فالذي فوقه وهكذا ويلجأ من وقت لآخر، لترتيب شخوصه وفق الأهمية من حيث منح الحجم الأكبر للمهم، وفي أحيان كثيرة نراه يساوي في حجوم شخوصه وكأنه يصور طبقات أو أياماً من الحياة، لا تقل الواحدة أهمية عن الأخرى في بناء الحياة، إضافة إلى لمسة تأثير من الفن المسيحي وجداريات مايكل
آنجلو.
ورغم اشتغال منصور في سرديات مراسم الموت والدفن والدخول إلى قلب المدافن وطقوس الجنس، وتقديم القرابين وحركات الرقص في استجلاب المطر، لكنني أجد أن هنالك سرا أو فخا يكمن خلف ذلك النسيج، الذي يغلف به الفضاء الأسطوري في خلقه للمادة التشكيلية التي يقدمها في أعماله الفنية.
فمع ما تخلق ألوانه من جو غامض ومحيط حيوي ساحر، لكنني لا أنقاد إلى الأجواء المحيطة بالعناصر البنيوية في اللوحة، ولا للهيكل الأسطوري لطرحه الفني بل أقرأ ما وراء هذه السطور.
وأبدأ بالتساؤل مدفوعا بحديث كارين آرمسترونغ، ما الذي أخذ صبري منصور إلى عالم الأسطورة، مغادرا عالم الواقع، ما الذي جعله يترك عالم الحاضر والمستقبل ويرحل إلى عالم الماضي.
ثمة إحساس بالإحباط من الواقع وأحلام وطموحات وآمال اصطدمت بجدار من التقلبات والصراعات المجتمعية والاقتصادية والسياسية، وهنالك خيبة كبيرة تركها في نفسه الزمن والناس، وهو إذ يرسم بروح الماضي إنما يقدم الصورة الحلم، التي أرادها هو وأبناء جيله لحياتهم وحياة الأجيال اللاحقة لا الشكل الظاهر في اللوحات، بل هي حالة الاستقرار والحياة الكريمة وأجواء البهجة والسلام والأخلاقيات الإنسانية.
تتخذ خلفيات المشهد في أعمال منصور في أحيان كثيرة المساحة اللونية الواحدة، بيد أنه يناغم ببراعة لونية بينها وبين عناصر اللوحة من شخوص ونخل وأشجار وأبنية من دون أن يلجأ للخطوط الفاصلة أو اللمسات اللونية الحادة، فاللون يذهب للتلاشي والتآلف مع مجاوره بكل هدوء بين العنصر والخلفية أو بحركات منبثقة من العنصر كالأشرطة والثياب والشعر.
كما أننا نجده يترك عناصره أحيانا بحدود خارجية أشبه بالهندسية، من دون أن تبدو مقصوصة وملصقة أو طارئة على خلفية اللوحة.
كما لو أننا نرى آثار منمنمات يحيى الواسطي على حركات عناصره ومعمارية لوحاته بوضوح، لكن كل ذلك يجري وفق أسلوب منصور الخاص.
لا تتمايز أشكال شخوص صبري، سواء كانت الأنثوية بشعورهن الطويلة أو الذكورية في أعماله بمميزات وجوه أو إضافات خاصة ما عدا تشخيصه للملائكة المتميزة بأجنحتها، وكأنه يتناول فكرة أو قضية عامة لمجتمع يمتلك وحده، إن شاء، إرادة تغيير مصيره وتوجيهه نحو الأفضل أو نحو الأسوأ.
وهذا ما نلمسه من رصف قدري للشخوص تقاربت أو تباعدت متحركة في إيماء، كأنها في مواكب عرس أو مأتم ملحمي.
الأجساد البشرية في عالم صبري منصور لا تخضع للمقاسات والنسب الواقعية فقد اختزلت حتى باتت تشبه بعضها في الشكل والتفاصيل، كأن هنالك شكلا في لا وعي الفنان يفرض بصمته على الأجساد البشرية المبسطة والمتشابهة إلى حد كبير.
هنا نتساءل أهو يسلبها إرادتها، أم أنه يعيدها إلى فطرتها الأولى, وهذا ما تقدمه لنا مشاهد العري سواء تلك التي تتضمنها التركيبات الحميمة أو تلك العفوية الاحتفالية بحركاتها الراقصة أو المرحة.. هذه الطريقة في التجسيد ليست مجرد اختيار فني، بل هي انعكاس لرؤى وانطباعات تأثرية عميقة في نفسية الفنان عن وجوده وبيئته، البيئة الصابرة المتمسكة بتقاليدها، وهذا ما نراه في ثبات أقدام شخوصه والتصاقهم بالأرض وتمسكهم بها.
إن هنالك جنة موعودة، وهي في الوقت ذاته مفقودة، لكنها تعيش في حلمنا وفي سعينا للحصول عليها.
ونحن في خضم كل فوضانا وتيهنا ننسى أنها تعيش داخلنا وأن انانيتنا هي من تعمينا عن رؤيتها فنبقى في ضياعنا ندور وندور في صحارى نزرعها نكبات ومآس ومقابر.
هنا يطل علينا دانتي من غيبه فيقول: “أي بني، هو ذا تفسير ما تنبّأوا لك به؛ هي ذي الإشراك التي ما برحت تخفيها عليك دورات للأفلاك قليلة.. لا تحسدنّ رغم ذلك أبناء وطنك، فحياتك تنخط في قادم الزمن أبعد من عقوبة خيانتهم، خيانتهم لأنفسهم”.