سامر أنور الشمالي
كثيرون كتبوا القصة والقصص القصيرة بحسب قواعد القص الكلاسيكي المتعارف عليها. لكن قلة من هؤلاء فضلوا الكتابة على طريقتهم الخاصة دون الاهتمام بتاريخ القص العريق! ربما لأنهم وجدوا أن لا ضرورة لتقييد أنفسهم بأية قواعد مسبقة، أو لقرارهم الاشتغال بأسلوب خاص بهم. وربما أرادوا الكتابة على السجية لأن هذا- برأيهم- أقرب للتعبير عما يجول في الخاطر، وأقرب إلى القراء أيضا.
وهؤلاء والكتاب غالبا ما يكتبون بالطريقة التي يتكلمون بها بعيدا عن الصنعة، ويرغبون في أن تكون صفحات كتبهم مساحات حرة يقوم القارئ بالتنزه في سهولها الواسعة دون تعمد السير على الدروب المرسومة بدقة.
وقد أعلنت جائزة الملتقى للقصة القصيرة فوز الأديب المصري المعروف سمير الفيل عن مجموعته القصصية "دمى حزينة" التي أتت تتويجا لاشتغاله في مجال القصة القصيرة، وهو لا يتميز بغزارة إنتاجه فحسب، ففي خلال مسيرته الأدبية أصدر ما يزيد خمس وعشرين مجموعة قصصية، بل يتميز باكتسابه أسلوبا خاصا ينفرد به عن أقرانه من كتاب القصة، وأهم ميزات هذا الأسلوب أنه لم يعد معنيا بكتابة القصة بصيغتها المعهودة، بل يكتب القصة بالطريقة التي يشرب فيها الشاي في مقهى شعبي، أو كما يتحدث بعفوية إلى صديق مقرب.
نجد أن الفيل يمكن له أن يتناول أي موضوع ليكتب عنه قصة قصيرة، أو قصص عدة! وهو لا يكتب عن الواقعة كما جرت على أرض الواقع بالضرورة، بل كما رآها بعيني مخيلته، فهو لا يلزم نفسه بالرسم الواقعي، رغم أن قصصه شبيهة بلوحات مرسومة، فلديه عناية خاصة بالمشاهد البصرية، وقد تكون لوحاته القصصية مرسومة بحسب المدرسة التكعيبية، أو السريالية، أو الانطباعية. وتلك القصص لا تخلو من الفنتازيا أحيانا. وهنا تبرز صعوبة التواصل مع هذا النوع من القصص، لأن التواصل معها مربك أحيانا، رغم بساطة البناء الفني للقصة! مع العلم أن الكاتب لا يتعمد الغموض، أو الخوض في القضايا المعقدة، لكن هذا الأسلوب الخاضع المنقاد لمزاج الكاتب الخاص يقوده إلى هذه الدروب، وربما من دون تعمد مسبق! وهذا ما يسبب بعض الانزياحات التي لم يعتدها القارئ الذي الفها في القص التقليدي، بل قد يجنح الكاتب بأسلوبه الذي اعتاده فيحدث قطيعة غير مقصودة مع القارئ الذي لم يعد يرى أي عناصر ثابتة في النص كي يستند عليها لفهم معاني القصة وإشاراتها. بل القاص نفسه يؤكد في قصص عدة أنه ليس في كل قصصه حدث، أو شخصية، بل قد تكون القصة مجرد مشاهد تعبيرية لا غير!.
في الكثير من القصص يقدم الكاتب مشاهد محددة بإطار فني لنقل مساحة محددة من المشاعر والأحاسيس، وربما الأفكار أيضا، لكن بطريقة مكثفة قد تقبل دلالات متعددة في بعض الحالات، مثل قصة "تلك الحواجز" وفيها السجان يخرج بطل القصة ويأمره بالركض في طريق طويل تعترضه فيه الحواجز، والحيوانات المفترسة. والقصة لا ترسم المشاهد بواقعية، بل ترتسم كهواجس في مخيلة البطل الذي تعود به الذاكرة إلى سنوات خلت، ثم يبلغ نهاية الخط، أو يتخيل ذلك، بل تلك الرحلة قد تكون محض خيال! وكذلك قصص أخرى تتنقل بين الحلم العابر والكابوس المرعب أحيانا.
والقصة قد تكون مجرد مشهد عابر من الحياة اليومية، وبهذا المشهد يقدم القاص الحالة التي يريد التعبير عنها. كما في قصة "يوم الجمبري" التي تبدأ على النحو التالي: "اشترينا الجمبري من السوق. جمبري فخم بقشور زرقاء تشوبها حمرة. جلسنا في المطعم نتداول في أمر جائزة نوبل في الأدب، وكانت قد أعلنت منذ دقائق. نقشر الجمبري المسلوق، ونضع القشر في أطباق من الفخار" ص 105.
وهذا النوع من القصص لا يتضمن أفكارا بالضرورة، بل قد القصة تقدم مشاهد من مشاعر وأحاسيس تنتاب بطل قصة، وقد لا تكون واضحة، بل ضبابية في كثير من الأحيان. وقد تبدأ القصة دون تمهيد لتصل إلى نهاية غير منتظرة، بل قد يصل الأمر إلى أن يجد القارئ القصة نفسها تجنح إلى الخاطرة لعدم وجود شخصية واضحة الملامح، أو حدث بارز، أو فكرة محددة يريد الكاتب إيصالها للقارئ.
لا شك في أن سمير الفيل يمثل تيارا جديدا يتنامى في كتابة القصة القصيرة الحديثة، وهذا النوع من القص لم يتناوله النقد أو يعالجه بما يستحق من الدراسات النقدية، عله يبين إذا كان هذا النوع من الكتابة هو تطوير وتتويج للقصة القصيرة. أو بحسب رؤية النقد الكلاسيكي هو مراوحة في المكان ذاته، أو تراجع في مسيرة هذا الجنس الاشكالي بامتياز!.