رحلة سيمفونيَّة مع علي خصاف

ثقافة 2024/05/21
...

  حوار: رجاء الشجيري
  تصوير: علي قاسم

الموسيقى طفولته ومراهقته اللتان لم يعشهما، وهي حبيبته الأزليَّة، هو تولد  قلعة صالح محافظة ميسان عام 1957 من عائلة بيت خصاف الموسيقيَّة في العزف على الآلات الهوائيَّة، أخوه الأكبر عازف ترومبيت والأخ الأصغر عازف ساكسفون وأوبوا وأولاد أخيه كذلك يعزفون الآلات الهوائيَّة، أما أولاده وسام فيعزف الساكسفون وحسام يعزف الأورغ وبسام يعزف يوفونيوم وهشام يعزف الكلارنيت والتشيلو، هذه الجينات مهدت له في إيقاد الحلم والشغف بالموسيقى ضمن تواضع كبير وبساطة وخلق حبَّب فيه كل من عرفه من طلاب وزملاء وجمهور، ألف ووزع وقدم الكثير من الأعمال في الفرقة السيمفونيَّة... إنه المايسترو علي خصاف لنطلع على رحلته من خلال هذا الحوار مع {الصباح}.
مؤلفات
خصاف له إنجازاتٌ موسيقيَّة وأكاديميَّة عدة نذكر منها الموسيقى التصويريَّة لفيلم (جندي تحت التدريب) عام 2009، قدم مع الأوركسترا السيمفونيَّة الوطنيَّة العراقيَّة (كونشيرتو الكلارنيت لموزارت) و(كونشيرتو الكلارنيت لفيبر) عام 2007 – 2008. لحنَ ووزعَ تايتل وموسيقى تصويريَّة لمسلسل (حكايات من التاريخ) من كلمات عدنان هادي 1999، اشترك في تلحين أوبريت (في يوم بغداد) مع الموسيقار العراقي عبد الرزاق العزاوي عام 1995، قاد فرقة بابل المركزيَّة للمهرجانات الموسيقيَّة أعوام (1997 – 2002)، قاد الأوركسترا الصربيَّة ضمن الأسبوع الثقافي العراقي الصربي.
كما أدخل "الجوزة" في كونشرتو من ثلاث حركات مع الأوركسترا السيمفونيَّة؛ بهدف جعل الأعمال العراقيَّة عالميَّة تعزفها أي أوركسترا، إذ أخذ المعزوفات من ألحانٍ شعبيَّة منها "جي مال لي والي" و"بوية انعيمة" و"ما أندل دلوني" و"مروا بنا من تمشون" و"ما لي شغل بالسوك" و"يمة يا يمة" وأطوار "العياش" و"المحمداوي" و"الصبي"، أما مؤلفاته لأوركسترا السيمفونيَّة الوطنيَّة العراقيَّة فكانت (الأرض، التحدي، ذكريات، غصن الزيتون، صولو لآلة الجوزة، صولو الكلارنيت، صولو الجلو، صولو لآلة السنطور مع الأوركسترا، أنغام من التراث، ثلاثي الكلارنيت مع الوتريات، وغيرها الكثير….).

بداية الحلم
* لا بُدَّ من محطة انطلاق للتجربة، فهل يمكننا التوقف عندها؟
- كانت البداية في العام 1973 عندما دخلت الموسيقى العسكريَّة، وقبلها كان فيها أخي مهدي خصاف عام 1963، كذلك جعفر خصاف دخلها عام 1973. وهي مؤسسة مهمة فتحت لي أبواباً عديدة، فهي تعلم الآلات الهوائيَّة والنحاسيَّة والآلات التي تخصُّ الجوقة العسكريَّة.
وعن سبب دخوله لها يقول خصاف: "كرهي الشديد للرياضيات والفيزياء ورسوبي لسنتين بمادة الرياضيات في الثاني متوسط كان السبب في دخولي لها"، أجبته مبتسمة متسائلة كيف تكره الرياضيات والفيزياء هكذا مع أنَّ الكون قائمٌ على إيقاعٍ وفيزياء!؟ "أعرف ولكني أكرهها وما زلت وهي خارج قواميس حياتي".
يضيف خصاف: "عند دخولي للموسيقى العسكريَّة تغيرت حياتي تماماً وتفجرت جينات الموهبة التي ورثتها من آل خصاف، كنت بعمر 13 سنة ولكني أحبُّ موسيقى الأغاني لكنْ لماذا وكيف لا أعرف، كذلك موسيقى مقدمة المسلسلات والأفلام، كطفلٍ كنت منعزلاً ولم تستهوني الأشياء الطفوليَّة ضمن عمري كما البقيَّة، لذلك مع دخولي للسنة الأولى تجاوزت أقراني بكثير وبدأت مديات موهبتي تأخذ مسارها بشكلٍ كبيرٍ وسريع.
تخرجت فيها سنة 1976، وفي 1977 اختاروني أحد أعضاء جوقة المنتخب، وسافرنا إلى يوغسلافيا القديمة حيث كان عمري 20 سنة وكنت أصغر عازفٍ بينهم.
بعدها قدمت للفرقة السيمفونيَّة، لكنَّ الاختبار كان صعباً جداً، اللجنة مكونة من 12 عضواً، 8 أجانب و4 عراقيين، كتبوا في تقييمهم يبقى تحت الاختبار لمدة 3 أشهر.. كانت سعادة غامرة وإنجازاً كبيراً في حياتي، توقعت عدم قبولي، بعد 3 أشهر والاختبار الثاني جاءت الموافقة على قبولي في الفرقة السيمفونيَّة كعازف كلانيت ثاني، كنت سأقبلُ بأيَّة صفة كانت، المهم أكون داخل فرقة الحلم الأوحد وعالمها.. لتصبح حياتي كلها.. كانت الفرقة السيمفونيَّة تقعُ في قاعة الخلد وأنا بيتي في مدينة الثورة، حالتي الماديَّة بسيطة جداً لم تسمح لي بالذهاب والمجيء بسهولة، لذلك كنت أنتظر باص "المصلحة" لكي يوصلني وأنا في حالة صعبة لم أكن أستطيع شراء الملابس والأحذية ولا أملك نقود التنقل، لكنَّ الطموح والشغف والهدف الذي سعيت إليه لم يجعلني أفكر إلا بالمضي لتحقيق الحلم.
ويضيف "لم أعش مراهقتي كما أغلب الناس أيضاً، بل انشغلت تماماً منذ الـ13 سنة بالموسيقى في العسكريَّة وبعدها السيمفونيَّة، تزوجت بعمر 18 عاماً بسبب الضغط الاجتماعي ورغبة والدي، لكنَّ عشقي وحبيبتي وزوجتي وهوسي وشغفي هي الموسيقى".
دخولي للسيمفونيَّة أشبه بالمعجزة وأنا أشاهد كل آلة موسيقيَّة وأسأل كيف تعزف هذه وهذه؟.. بدأ طموحي يكبر ويكبر مع اجتهادي وشغفي المستمر، فلم أكن أريد أنْ أكون عادياً في الفرقة، فمن عازف كلانيت ثانٍ إلى عازفٍ أول بعد ثلاث سنوات فقط، بعدها بدأت أفكر لماذا لا أقود الفرقة والعازفين، لماذا لا أوزع وأقوم بالتأليف ما هي السيمفونيَّة؟
ممن تتكون الافتتاحيَّة؟
بدأت أتسلح بالقراءة والبحث والدراسة للعصور الموسيقيَّة وكل ما يتعلق بالموسيقى لأرتقي وأمضي بعالم التأليف والقيادة. فهي لم تكن هواية أو مهنة بل كانت عشقاً مستمراً.

* متى بدأت القيادة؟
- بدأت أقودُ في الثمانينيات، كنت أجلب وأجمع من العازفين في الموسيقى العسكريَّة وأعمل معهم في مهرجانات وحفلات إلى أنْ انتبهوا لما أقوم به وبدأ يأخذ صداه.
لكنني قدتُ فعلاً في الفرقة السيمفونيَّة عام 1997،

* من أين جاءت فكرة العصا التي يستخدمها المايسترو؟
- سابقا كانت الفرقة صغيرة تسمى (جمبر ميوزك) (موسيقى الصالة) فالمايسترو يستطيع أنْ ينظر لعازفي الفرقة وكذلك هم، ولكنْ عندما بدأت الفرقة تكبر وتكبر بأعدادٍ كبيرة لم يعد يستطيع رؤيتهم جميعاً لتوجيههم موسيقياً، فتمَّ اقتراح عصا طويلة جداً كما فعل الموسيقار "جان باتيست لولي" وهو يضرب بها الأرض الى أنْ ضرب اصبعه وتلوثت الإصابة الى تلوث الدم ومات بسبب ذلك، ثم بدأ عازف الكمان بالقوس يضرب ويؤشر لكنَّ الأعداد الكبيرة هي من جعلت العصا بشكلها الأبيض الحديث بيد المايسترو هي الأنسب، إذ تتمُّ مشاهدة حركتها بيد المايسترو من قبل جميع أفراد الفرقة.

* ما هي مواصفات القائد المايسترو؟
- أكاديمياً عليه الإلمام تماماً بالعلوم الموسيقيَّة ودراسة علم الآلات ومدارس الاتجاهات الموسيقيَّة، ليأتي بعد ذلك شخصيَّة القائد وثقته ودرجة إقناعه وتأثيره في فرقته التي يقودها ثم بعد ذلك تأثيره في الجمهور أيضاً.

* بمن تأثرت عالمياً، عربياً ومحلياً؟
- عالمياً بتشايكوفسكي وفورجاك المدرستين الروسيَّة والجيكيَّة أكثر من أثرتا في. أما محلياً فبالفنان الملحن طالب القره غولي رحمه الله، وعربياً تأثرت بالموسيقى المصريَّة ومحمد عبد الوهاب، فريد الأطرش الموشحات، والملحنين علي إسماعيل فؤاد الظاهري رياض السنباطي الموجي بليغ حمدي عمار الشريعي.

* ما هو الفرق بين تلحين الأغاني العاديَّة والتأليف الموسيقي بالسيمفونيَّة؟
- تلحين الأغاني العاديَّة ميلودي واحد وخطٌ واحدٌ تستمر عليه الأغنية، أما التأليف الموسيقي في السيمفونيَّة فيتكون من أصواتٍ موسيقيَّة متداخلة حيث خطوط عدة وتداخل الألحان مع بعضها.

* وما الفرق بين قيادة الباليه والاوبرا؟
- الباليه هي موسيقى بدون كلمات تعتمد على الحركات وإيماءات القصَّة المكتوبة، أما الأوبرا فهي كلماتٌ وتمثيلٌ وهي الأصعب في قيادة المايسترو لأنَّ فيها غناءً وكورولاتٍ وأصواتاً.

* كيف ترى الجمهور وتلقيه وحضوره ونوعه؟
- أحترمُ جمهوري كثيراً وكلي ثقة بتلقيه، الجمهور رائعٌ جداً رغم كل ما عشناه فهو عظيمٌ بوعيه وتذوقه وحضوره وتفاعله مع أعداده الهائلة في أيَّة حفلة ومتابعته لنا، أذكر في التسعينيات كانت لنا حفلة في مسرح الرشيد والحضور سبعة أفراد فقط!

* كل اوركسترات العالم هي مزيجٌ من جنسيات مختلفة إلا الفرقة السيمفونيَّة العراقيَّة فهي عراقيَّة تماماً لماذا؟
- الظروف التي مرَّ بها البلد كانت السبب، فلا يمكن لأي عازفٍ أجنبي أنْ يبقى ويستقرَّ معها، لذلك وعلى تعاقب الفترات المختلفة التي مرَّ بها البلد بقت السمفونيَّة بعازفين عراقيين فقط الى يومنا هذا.

* من من الأصوات أحببتها وأحببتَ العملَ معها؟
- طالب القره غولي عملت معه ووزعت أعمالاً عدة، فعند دراستي للموسيقى في قسم الموسيقى العسكريَّة ودخولي معهد الفنون الجميلة عام 1983، وتعلمي العزف على العود أصبحت لديَّ معرفة كبيرة في مجال الموسيقى والغناء فاكتشفت موهبة وعبقريَّة هذا الملحن القدير.

* مواقف طريفة أو صعبة مررت بها؟
- في العام 1998 في مهرجان بابل كان هناك أربع مطربات في الحفلة، تونسيَّة، مصريَّة، عراقيَّة، وجزائريَّة، الحفلة بدأت وأنا معهنّ بالتسلسل الى أنْ جاء من يخبرني أنَّ نوتة الجزائريَّة ليست موجودة! كنت مع المطربات في الحفلة والعزف مع كل واحدة حسب فقرتها، لكنَّ عقلي مع الجزائريَّة ماذا أفعل والحل إنْ لم أجد النوتة وجاء دورها. الى قبل اللحظات الأخيرة وأنا أخبر أحد العازفين إبحث جيداً وبدقة في إحدى الغرف وفعلاً تمَّ إيجادها بعد التوتر والتفكير ماذا لو لم نجدها.
موقفٌ آخر صعبٌ جداً في بداية العام 1981، إذ غاب أحد العازفين في الفرقة السمفونيَّة فأرادوا إيقاعي ضمن الغيرة والمنافسة حينذاك وأخذ مكانه والعزف بدلاً عنه ضمن آلة جديدة عليَّ تماماً لم أعزف بها قبلاً لكنني فرحت وبقيت أتمرن ثلاثة أسابيع متواصلة استعداداً للتحدي الى أنْ وصلت ليوم الحفلة فأصابتني فلاونزا شديدة جداً مصحوبة بحرارة مرتفعة والماء يتصبب من جسمي وجبيني وأنفي بغزارة، لكني لم أتغيب أو أمتنع، جلبت كميَّة مناديل "كلينكس" وأمسح وأعزف بشكلٍ متواصلٍ وهكذا الى أنْ أتممت المهمة رغم ظرفي الصحي الصعب.

* كيف تدعم الشباب الموهوبين بعد كل ما مررت به؟
- أحبُّ طلابي كثيراً، وكذلك كل شابٍ أو شابة لديه موهبة، رغم مشاهدتي الغيرة والامتعاض خاصة عند جلبي ومساندتي لأي عضوٍ موهوبٍ بينهم.. لكنني ما حييت أمام مسؤوليَّة أخلاقيَّة ومهنيَّة وإنسانيَّة تجاه المواهب الشابة والأخذ بيدهم ومساعدتهم بكل ما أستطيع فهم أمانة لدي.

* ما جديدكم؟
- "سماعي تغريد" و"سماعي ألوان"، والسماعي هو نوعٌ من أنواع التأليف الموسيقي العربي الكلاسيكي مع التوزيع مع أعمال تراثيَّة مع عمل موسيقى تصويريَّة لأكثر من عملٍ مسرحي ونشيد أيضاً سيتم الاتفاق عليه، وسيكون هناك حفلٌ للفرقة السمفونيَّة يوم 31 / 5/ 2024 في المسرح الوطني ونحن في بروفات كما تشاهدين بيننا اليوم.

* كلمة أخيرة.
- هي مناشدة مني أنا شخصياً المايسترو علي خصاف إلى معالي رئيس الوزراء السيد محمد شياع السوداني والى معالي وزير الثقافة والسياحة والآثار الدكتور أحمد الفكاك الى رعايتهم للفرقة السيمفونيَّة التي تمثل الواجهة الثقافيَّة والحضاريَّة للبلد، والتي تعدُّ من أهم وأقدم اوركسترا في الوطن العربي ، لي 50 عاماً أعمل في الموسيقى مع كل حبي وشغفي بها، لكننا في الفرقة ليس لدينا مكانٌ خاصٌّ ولا مسرحٌ خاصٌ يليق بتاريخ هذه الفرقة الموسيقيَّة المهمة وكلي أمل بالاستجابة، كما أقدم شكري لجريدة "الصباح" لمتابعتها ورصدها لكل الظواهر السياسيَّة والاجتماعيَّة والثقافيَّة في البلاد ونقل أصواتنا وأعمالنا بشفافيَّة ومهنيَّة. كما أهنئها بميلادها الـ21، تحيَّة لرئيس تحريرها الأستاذ أحمد عبد الحسين والعاملين فيها جميعاً.