الحربُ ترفُسنا بحصانها

ثقافة 2024/05/23
...

 طالب عبد العزيز

أولئك، الذين لا مفاتيحَ في جيوبهم، ولا تسألهم الجهاتُ طريقاً، الى أيِّ شجرةٍ سيوثقون عربات التيه. وهذه العصافير التي تضجُّ في الصباحات، وتنقرُ شجرةَ الضوء، وتمتلئُ بها صحائفُ المنتظِرين، ثم تهاجرُ محمولةً بالريح والكركرات.. أما آن لها أنْ تهدأ بلوحةٍ في غرفةِ طفلِك الصغير سيدتي.
**
هذا، الذي يتبلورُ، ويغدو كأساً، وهذه التي ترتجُّ، وتمتزجُ وتغدو بكاءاً، وتلك التي تتبعثرُ وترتفعُ، وتصيرُ أغنيةً، وأنتَ الذي تتأرحجُ، وتعبثُ القصائدُ بفمك، ثم تنتهي الى ما يشبه السؤالَ، لا الندمَ.. هلا أخذتَ عنّي عبءَ اللحظة هذه، حيث لا أجدني على باب روحي، ولا أوبةٌ ليَ إلا من حنين، وليس سوى الريح تخصفُ النعلَ من التراب.  
**
النسوة اللواتي يطمثن في الشهر مرتين، صديقاتِك في مكتب السفريات، اللواتي ظلّتْ حلماتُ صدورهنَّ ناتئةً الى اليوم، وما زلن يبحثنَّ عمّن يقذفُ بالقصير من سراويلهنَّ الى حافة السرير، خارقاً قاعدةَ الانتظار، ثم يذهب حييّاً، يلعقُ حبّة الكاكاو الصغيرة، لتقفَ مَنْ لم تحسنْ ترتيب شعْرها بعد، وبقميصِ نومها الازرق، منتظرةً باصَ المدرسةِ الاخير؟  
 **
صبيان المعارك الذين لم يعودوا من الحرب، ومازالت السماءُ تغفلُ أسماءَهم في المجرات. الأفاعي والسناجبُ تجتازُ حقائبهم الى الحدود، أولئك الذين تنبضُ الطرفاء تحتَ أقدامهم الى ما تشاء.. بأيٍّ من ثنايا أجسادهم خبَّأوا الرسائلَ والطعنات، والى متى ستظلُّ النجومُ مفقوءةً بأعينهم.. أيَّ قمرٍ ساذجٍ ذاك الذي تنبحه أغنياتُهم الآن يا ترى ؟  
 **
نحنُ المبعثرين في عروق الرخام، وفي قارات الالم الالف، من سيأخذ بأيدينا إلى الأسباب  كلما سُئلنا عن الحياة؟ وكم ستبدو تافهةً الاجاباتُ البليدة تلك، التي لا نجدُ غيرَها، أو لا نجتهدُ في تغييرها ؟ نحنُ الذين نتعاظمُ في الطين، ونضعفُ في القبل وراءَ الأبواب وتهزمنا تبابينُ النساء في الليل.. الايِّابُ طريدتنا التي نريدُ حسب، والوحوش التي بأحلامنا ما نشكوه ونكرهه. ترى، الى مَ ستظلُّ ترعبنا درجاتُ السلّم الاخيرة، كلما صارت الارضُ قريبةً، وهذه الهُوَّةُ بمَن سيردمُها حَمَلَةُ نُعوشِنا؟ نحن الذين ترفعنا الكؤوسُ، ونتلِفُ أربطةَ أعناقِنا في المراحيض!  
 **
 ترقِّعُ الريحُ ثيابَنا بالحضور، وتخلعُ المسافاتُ ما ننتعل في الغياب، وتُشبهُ أشياؤنا الاشياءَ بأرفف الحوانيت، وجوهنا في ما يصطفق من الابواب، وأصابعنا في ما يُهملُ ويتراجعُ من الآجر، نحن الذين لم نبلغ السماءَ بعد، ليتنا كنّا ليلتنا الاخيرة، ليتنا لم نأتِ الموعدَ الصادقَ الاوّلَ، صيحتنا هذه قطارنا العاطل في المسافات، وهذا الشرطيُّ يبالغُ بسؤال الوصول والعودة، غيرَ عابئٍ بما يبلى من الوقت والثياب. لكن، هكذا سنظلُّ واقفين، على مرقاة الحُلم ذاتها. نحنُ فكرةٌ بظهر خطاطةٍ، لن يجرؤ أحدٌ على محوها.  
 **
يركضُ بثياب ممزقةٍ، الليلُ المتبقّي بين البيوت. باهضٌ، وتحمله على ظهرك، هذا الفجر، الذي أنت خارجٌ الانَ به. تلك العرباتُ تجرُّ الطريقَ الى نهايته، كلبَ من هذا الذي تنبحُ كلماتُك خلفه، رأيتك وأنت ممسكٌ بالتراب أيها الغريبُ، ورأيتك وأنتَ تطعمه النَّهار، وتَسقيه الليل، ورأيتك وأنت تعبرُ على عمودك الفقري، كانت الاعمدةُ آخرَ أدلّائك الواقفين. أيّها الأعمى: لا أحدَ سيأخذ بعصاك.  
                              **
 حيث لا أحد ينتظرني، أنا الواقفُ على حافة المعنى سأكون، وحيث لا أحدَ يومئ لي، أنا  التائه في احشاء الاسفلت سانجو، أطلُّ على الفجر من وردة في السياج، وعن الذاهبين الى النار أحمل عبء الفردوس. أقول لعشب الحديقة :صباح الخير، فيساقط من كلماتي أطفالٌ كثرٌ، وسخون ورائعون.  
 **
خذ الشفرة، واجرح الهواءَ، إذا كان مشهدُ الدم ما يروق لك، أو القِ بنفسك من النافذة عندما يسقط الثلج، وحين يتحوّل لونُ الغيم الى الاسود دع الستارةَ على اليمين، المصادفةُ حسب هي من تجعلك آمناً . أمامَ مِشجب الثياب، أبحثُ عمّن يعرِّفُ أكفاني بي، لأنني من يذبل أولاً: قلتُ للنارنج، انا من يموتُ أخيرا: يقول النَّحل. لولا الشتاءُ لكذَّبتُ موقد أمّي، ولولا الظلام لكان سراجُ أبي قنفذاً، على ظهر هذا الكوكب البريء حملتْ فأسَها لتقتل، هذه الحربُ التي ترفسنا بحصانها كلَّ يوم. لكنْ، وبغير حبالها، وفي بريّةٍ لا تؤتى من شمس، ولا تحدُّ بحصاة، ظلتْ بيضاَ تمرحُ شياهُ روحي. تقول سيدتي: ليتَ السَّوسنَ كانَ مناسباً لتظهير النَّجاة.