تنورة في شارع ثقافي

ثقافة 2024/05/23
...

  يوسف المحمداوي

تبدأ مآب عامر مجموعتها القصصية "تنورة جينز قصيرة" بمقطع من قصيدة للأديبة الفرنسية "جينيفير جروسولاس"، وهي تقول: "أجمع ألمك وضعه في مكان ما/ فكر أن كل إحساس حي/ لايمكن حذفه"، واختيارها لمقولة امرأة كمقدمة لكتابها لا يجعلك متهما للقاصة بأنها تميل لفصيلة جنسها كامرأة، لكن ما يعزز ذلك الاتهام هو اختيارها المقصود وفي جميع قصص مجموعتها الـ"16" أن تكون المرأة فيها هي البطلة باستثناء قصتها الأولى "عبوة ماء" إذ كانت البطولة لشاب مدقع. وهذا ما يجعل القارئ قبالة تأويلات عدة، بشأن تضامن القاصة مع النساء  والفتيات. واعتقادي أنها سلكت هذا المنحى قد تكون عن تجارب عاشتها بحكم عملها، أو نقلا عن زميلات لها بمهنة الإعلام أو الوسط الثقافي والأدبي. لذا تجد بطلات جميع قصصها فتيات باستثناء قصتها "أحمر قاني" التي كانت بطلتها امرأة عجوز.
المجموعة الفائزة في الجائزة الثانية بمسابقة الأدباء الشباب، التي أقامها بجهود رائعة الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق، والذي طبع المجاميع الفائزة على نفقة اتحاد الجواهري، حوّت على "16" قصة بدأتها الكاتبة ب "عبوة ماء" وختمت منجزها الإبداعي بـ "اكسيليفون". وما يدعو للدهشة والإعجاب أن الكاتبة حرصت وبدقة أدبية متناهية على اختيار عناوين مجموعتها الفرعية وبتكثيف لغوي عال بعيدا عن الإسفاف، لذا تجد من عناوينها الـ (16) ثمانية عناوين بكلمتين، وسبعة بكلمة واحدة، وعنوانا واحدا بثلاث كلمات، وهذا الأمر يحسب للكاتبة التي أراها قد أبدعت مع أنها في ثاني بواكير عملها بعالم السرد الأدبي بعد مجموعتها القصصية الأولى "أحتج وبشدة - 2022".
تبحر بنا مآب عامر عبر قصتها الأولى "عبوة ماء" مع الوصف الدقيق لبطل القصة الجابي لأجور النقل أو ما نسميه بالمصطلح الشعبي الدارج "السكن" فهي تصف لنا زمن المشهد وما يرتديه الشاب من هامته إلى اخمص قدميه، حركاته البهلوانية، نظراته، صياحه وهو يجذب الراكبين صوب حافلته، وبذات الوقت تصف لنا مشهد الركاب داخل الحافلة، علاقة البطل بالسائق، وكأنها بريشة فنان متمرس رسم لنا لوحة صادرة عن المدرسة الانطباعية، تقول عامر: "استمر بمسح جبينه مرّة بعد مرة، بأكمام طويلة ضيقة، ممتلئة ببقع العرق، عدّ نقص الوجوه المتجهمة الجالسة، ثم وقف يتأرجح على باب السيارة، صرخ (بياع.. بياع)"، تنتقل بنا في مشهد آخر صوب الراكبين لتجعلنا في الصورة بأدق تفاصيلها، "أشاح الجالسون عنه ببصرهم، كلما بادر بالسؤال. طالب جامعي خلف السائق يفتح كتابا ويستغرق بتصفحه. في الزاوية اليمنى الأخيرة فتاة ترفع صوت الموسيقى كلما سمعت همسة تخترق سماعاتها. امرأة أمامها تحدق عبر النافذة بتركيز وكأنها في عالم آخر يصعب اختراقه، عجوز طاعنة بالسن تتصفح أدعية في هاتفها المحمول، وعلى المقاعد المتحركة فتيات يجلسن بالتتابع ينظرن إلى أقدامهن كتماثيل لا تتحرك أبصارهن".
وتنهي عامر قصتها بوصف بطلها قائلة"في المحطات المزدحمة ينادي "بياع" وحينما تتحرك الحافلة وتبتعد.. يتمعن في وجوه الآخرين وكأنه يبحث عن شيء ما".
تنتقل بنا عامر إلى قصتها "تنورة جينز قصيرة" وهي عنوان المجموعة بالكامل، وعلى الرغم من أهمية القصص الأخرى بسردها وأحداثها وعمق الوصف التشكيلي المستخدم، لكنني أرى اختيارها لهذا العنوان كدلالة للمجموعة صائبا بامتياز، لكونه مثيرا للجذب وكذلك الجدل، لكون التنورة، فضلا عن قصرها نوعيتها الجينز، تثير الفضول عند القارئ الباحث عن الأحداث التي تقف ما وراء التنورة؟
بتنورتها الجينز القصيرة تأخذنا القاصة إلى مواسم أحد الأعياد، لكنها وكضابط تحقيق أمني تقوم بفرز سكنة تلك المحلة، العائلات الموغلة بالحزن بثيابها السود وتسريحات الشعر الملفوفة بأشرطة سوداء أيضا، واصفة بنفس الوقت العائلات الارستقراطية التي تتفادى الاختلاط بالعائلات الفقيرة، رغم تواجدهم في محلة واحدة وتجمعهم جميعا صباح أول أيام العيد قرب ايقاعات دمام المسحراتي، لم أر للتنورة وجودا مميزا ومغريا، إلا حين داعب الهواء ساقيها واصفة المشهد بدقة "شعور بالضيق والارتباك يخالج البنت، كلما داعب الهواء ساقيها، ارتفاع تنورتها الجينز القصيرة، يجعلها تنتظر توبيخا غير متوقع، عند ركضها تتجاهل خوفها، تتمهل قليلا".. وهكذا تجد في وصفها ما يبرر فعلها، وعندما انتصرت على صاحب لعبة الرشاش، الذي اثار حنقها بعد ان أصابها تختم صاحبة التنورة رحلتها بالقول "كان الأطفال حولها يسخرون ضاحكين ومنتقصين منه، وبقيت تبتسم لحياة ما.. حياة تتمنى أن تعيشها بكل صخب". تتحفنا بقصصها ومشاهداتها الرائعة، لتصل بنا نحو نهاية رحلتها السردية الى خاتمة موسيقية محزنة مع قصتها "اكسيليفيون"، فتاتنا هي متسولة من الدرجة الأخيرة، فهي تبحث في مطعم عمَّا يؤصد باب جوعها بحركات طفوليةً عفوية، الجميع لم يتعاطف معها، باستثناء عائلة الطفلة التي شاركتها اللعب والمزاح والعزف، وكذلك آلة الكسيليفون، وما تبقى من طعام الفتاتين المتنمرتين، تختتم كاتبتنا مجموعتها بمشهد تصويري للفتاة: على الرصيف جلست، تنظر إلى الداخل، تابعت الشابتين، انتظرت خروجهما، ركضت بسرعة قبل أن يدرك العامل مغادرة الزبونتين، سحبت قطعة "الكيك" والمشروبات من على الطاولة، وأسرعت الى خارج العمارة.   ولا ندري أية الاقوال التي ذكرها رموز الأدب والفن عن القصة تنطبق تماما على ما قرأناه من سرد ممتع، فأحدهم قال "القصة القصيرة صورة فوتوغرافية والرواية فيلم"، وآخر يقول "أنها قبلة في الظلام من شخص غريب"، وثالث يقول "القصة القصيرة علاقة حب والرواية زواج"، ورابع يصفها متهكما "النساء يريدن أن يتحول الحب إلى رواية، والرجال يريدونه قصة قصيرة".. علينا جميعا الاطلاع على ما جادت به قريحة قاصتنا مآب عامر، لنراها مع أيِّ مقولة تتواءم أو تتلاءم وقد تتخاصم.