يوسف عبدلكي.. المسجى على لوح القيامة

ثقافة 2024/06/03
...

 محمد طهمازي


مرت الحرب من هنا، ولم يسلم منها بيت أو تسلم منها ذكرى. لقد فسد كل شيء، الصداقة، الحب، الاخلاص، الصلوات، الإيمان والوفاء.

كذلك الموت، حتى الموت نفسه يبدو لي ملطخاً مشوهاً.


أمين معلوف 

ليس أبلغ من فنان القضية وهو يصدع بنتاجه الفني معبرا وموثقا وشاهدا وأحيانا شهيدا وإن كان على قيد الحياة أو قيد المنفى أو قيد السجن حينما يصير الوطن سجنا كبيرا ومقبرة لا تشبع من التهام الأحلام.. 

يدرك يوسف عبدلكي أن ليس بالأمر السهل أن تكون فنانا لقضية ولا أعني أن تتحمل وتحتمل عواقب ذاك القرار فقط، بل وقبلها يجب أن تكون قادرا على التعبير عنها عبر خزين موهبة وثقافة ووعي وذكاء تكللها الامكانات التقنية التي تمتلكها حيث هي اللغة التي تتكلم بها أعمالك وأي ضعف فيها يضعف من دون شك الفكرة ويقلل من مساحة وصولها وانتشارها وعمق تأثيرها.. ليس سهلا أن تكون لك قضية تناضل من أجلها في زمن حرب يتقاتل فيها الجميع ضد الجميع ويقتل فيها الجميع الجميع لسبب لم يعد يتذكره أحد منهم ولهدف لن يصله أحد منهم. 

يرى البعض أن محلية الفنان أي انشغاله بهموم شعبه هي مثلبة لأنها، وفق رأيهم، تحد من المساحة التي يتحرك فيها خطابه الفني وتقلل من أدواته وصولا لمساحة المتلقين.. ولا أعرف من أين اتوا بمثل هذه النظرية في الفن والفنان.. لعلها جاءتهم بتاثير أرباع الفنانين الذين يكتبون عنهم بالعادة.

إن محلية عبدلكي هي في كونه إنسانا يقرأ ما حوله ويتأثر بكل مايجري من مآس وآلام قبل الأمور المبهجة فالذي لا يتأثر هو المتحجر القلب والمتحجر القلب لا يمكن أن يكون فنانا ولا أقصد الرومانسية هنا بل أقصد إحساس الفنان بإنسانيته.. ولتحقيق هذه القراءة وتحويلها لخطاب فني يحتاج الفنان لخزين ثقافي وقدرة على تحويل هذا الخزين لأعلى طاقة تعبيرية في أعماله.

إن بلادنا هي مسرح كبير للحرب والتخبط السياسي واللصوصية والظلم الاجتماعي وأكبر مسرح فيها هو مسرح الضحايا. 

لهذا نجد عبدلكي يلجأ لخلق الصورة المشهدية (السينوغرافية) فيضع خشبة مسرح قد تكون خشبة او إسفلت شارع أو أرضية بيت مهجور أو ورقة تحمل أفكارا موؤدة مؤثثا ومهندسا لفضائه المسرحي موجدا هرمونية متآلفة بين ما هو بصري وحركي أما الصوت فهو الذي ينبثق من داخل المتلقي بشهقة أو حسرة أو نشيج يشتعل فينا بعدما يحيلنا إلى عنصر جسدي هو رمز أو مشروع لضحية أو بقاياها ضمن معمارية تشكيلية بارعة من الضوء والظل متلاعبا بانتباه المتلقي موجها بصره إلى نقطة بعينها أو حركة ما تؤلب مشاعره الناقمة باستفزازية مؤلمة. 

يلجأ يوسف عبدلكي إلى الصور السيميائية كالصورة الجسدية والصورة الضوئية والصورة التشكيلية والصورة الأيقونية وصور مستعادة من الذاكرة، وهو يرسم الجمادات او الكائنات الميتة أو أجزاء من اجساد أو هياكل عظمية وهو لا يعبر بها عن الحرب والموت كما يحلل النقاد في قراءاتهم السطحية لأعماله بل أجدها تعبر عن حالة هي خليط من الحيرة وانعدام الوسيلة لفعل شيء فالسمكة مقيدة بطعنة المسمار رغم أنها لا تملك أيد ولا أرجل بيد أن المسمار يقطع أنفاسها.. إنه الشعور بالاختناق.. ثمة رجل الحصان التي فقدت حصانها لكنها تحاول البقاء واقفة.. سمكة غرزت رأسها في الأرض صدفة او عارا.. الجمجمة التي طار عقلها ذهولا وحولت لقدر تطهى فيه الآلام.. العصفور الساقط على الاسفلت بفعل الشظايا أو بفعل الخوف، إنه يعدم الوسيلة للحركة والطيران في هذا الفضاء غير الصالح للحياة وحتى للهرب من المجزرة التي تظهر لنا سكينها بين لوحة وأخرى.

 إن يوسف يركز باهتمام وعناية على درامية الصورة المسرحية لتحتل مكانة في خطابه التشكيلي الدرامي الجمالي الحيوي وتثير دهشة المتلقي مقدما في كثير من الاحيان صورا مركبة وإن كانت هذه الصور المتداخلة او المتزاوجة لاتنتمي إلى حدث زمكاني واحد بيد ان غاية يوسف عبدلكي من هذا المزج هو ايجاد المقاربة النفسية أو الفكرية بين الأحداث أو بين العناصر صانعا نوعا من الإيحاء بالتكامل الضمني التأثيري أو التعبيري بينهما، على الرغم مما قد يبدو بينهما من اختلاف ظاهري. 

 إن ذات يوسف تعيش عذابات وجودها في قدرية ملعونة مثل مسجى على صخرة الموتى وهو ليس بميت لكنه يرى الموت يمر من فوقه، مثل طائرة عملاقة، مقهقها يحمل معه آلاف الارواح إلى منفاها الأبدي مسلوبة الأحلام، والهة مفجوعة حيرى، وهو لا يقدر على فعل شيء سوى أن يتألم ويرسم.