أشواق النعيمي
لا شك أن الرواية بنية حكائية مرنة تكتسب قيمتها من فرادة تشكيلها، والروائي لا يشكل صنعته الإبداعية من فراغ، بل يعبر عن همومه، هواجسه، تطلعات أبناء مجتمعه. يسلط الضوء على الشقوق المظلمة في تاريخ الوجع الجمعي، لكن بطريقته
المبتكرة.
في "قبور تُهتك أسرارها" يسرد عامر حميو الأحداث بصوت روح موجوعة عالقة بين يقين الموت ووهم الحياة. الكتابة في أدب الموت في الرواية ليس جديدا، فقد كُتب عنه الكثير في الأدب العربي وغير العربي، الغربي والشرقي وكل حسب رؤيته الخاصة، هناك من جعل الموت ظلا يرافق بطله، وهناك من منح الموت أبعادا تخيلية تضفي على الرواية مسحة غرائبية وقيمة جمالية، ومن يستحضر الموت بوصفه بطلا مركزيا تتمحور حوله مسارات الأحداث كما في رواية "سارقة الكتب" للكاتب الاسترالي "ماركوس زوساك" الذي أنسن الموت، وصيره ساردا يتفاعل مع قارئه، يعتذر منه ويحاول إثبات صدق نواياه، يبرر أسباب حصاده للأرواح، كان الموت يتحدث كأي إنسان، يروي قصصا من ماتوا ومن نجوا منه، يستغرب قسوة البشر في التفنن في قتل البشر. المؤلف جعل الموت كائنا أليفا بالمقارنة مع قسوة البشر مسلطا الضوء على مآسي الحرب العالمية الثانية، وبالأخص في المدن الألمانية.
في رواية حميو الموت فضاء أليف نوعا ما، فقد نعته السارد بالرحيم ساعة قبضه روحه، لا عذاب ولا أسئلة في القبر، وروح سالم التي رافقت جثتها، استطاعت أن تنفذ من مكمنها وتتحرك في المقبرة وخارجها كما تشاء "رحت أجر ذاتي شيئا فشيئا حتى أصبح شبحها كله خارج الثقب".
الموت في الرواية لم يكن نهاية الحكاية بل بدايتها، إذ تبدأ من لحظة الموت المفاجئ الواعي لأنه وهو ميت يدرك ويسمع كل ما يدور حوله من لحظة الموت حتى آخر مراسيم الدفن، لكن ضمن الحدود المعرفية لثقافة الموت المتداولة
اجتماعيا.
تحاول روح سالم إيجاد أجوبة منطقية لأسئلة تفلسف وتنبش وتشكك في عمق تلك الثقافة، أسئلة تدفع إلى التأمل والتفكير، تتساءل: "من يقوم بالمراقبة والتحليل والاستنتاج إذا كان الدماغ يتحلل مثل باقي أجزاء الجسم الأخرى".
الرواية رحلة سردية تمتاز بالتشويق، تأخذ القارئ إلى عالم مجهول بلغة سلسة لا تهتم بتجميل العبارات بقدر الاهتمام بسرد الحدث وتوضيح الفكرة، يقول فرويد إن "الوعي يتصرف كما لو كان خالدا، وروح سالم تتصرف بوصفها وعيا أثيريا خالدا، تناضل لمقاومة فكرة التلاشي والعدم، تحاول البحث عن ماهيتها الكينونية، وفهم مزايا التحول من الوجود المادي إلى اللا مادي علها تنجح في الإفلات من مصيرها الحتمي".
تعيد الرواية هندسة الموت بأبعاد حسية، وخواص إنسانية، تروي مكابداتها في الحياة للانعتاق من ذل الفقر والاستبداد والديكتاتورية، ومكابداتها بعد الموت للخروج من ضيق القبر والحفاظ على حواسها التي تأخذ بالزوال كلما شاهدت أو استمعت لمحادثة دنيوية. في مرويات المقبرة، نمر عبر ذاكرة سالم لنتعرف على سيرة حياته الماضية، ونقرا قصصا مختلفة لأحياء قساة مقابل شفقة الموت، وأحياء جبناء ينتقمون من أعدائهم بعد موتهم، مقابل أرواح مهمومة ارتحلت ظلما، تجتمع في روح سالم ثنائيات متناقضة من مشاعر الشك واليقين، الرغبة والنفور، الشجاعة والخوف، المقاومة والاستسلام، لتتمثل بهيئة ذات دخانية مأزومة تسبح في عالم ما بعد الموت بلا هدف هروبا من واقع تعجز عن فهمه، وأحيانا تراودها رغبة ثائرة لفتح أبواب القبور وهتك أسرارها ليأخذ كل مظلوم حقه من الظالم. كما تلتقط كاميرا السرد بعض الممارسات الدخيلة التي طفت على وجه المجتمع العراقي بعد عام 2003.
تسعى روح سالم من خلال خطابها المونولوجي إلى توثيق ما يجري داخل المقبرة، وحفظ قصص بعض الموتى لتكون عبرة للأحياء. من خلال فعل التدوين على أرض المقبرة الترابية حينا، وفي سجل حارس المقبرة حينا آخر، وكأن فعل التدوين وسيلة للخلود. الرواية رغم أنها تدور داخل مكان الموت بأجوائه الكابوسية، تعد دعوة للحياة بكل عناوينها، ورسالة تحث على التسامح وتحقيق
العدالة. ولابد أن نشير إلى أن السارد لم يخبرنا عن مصير أرواح الموتى الآخرين في المقبرة، ولم يلتق إلا بثلاثة أرواح فقط، وهل هو فريد من نوعه، ربما أن الرواية بحاجة إلى المزيد من الفصول والتفاصيل للرد على بعض الأسئلة.