فلسفة الدولة

العراق 2020/01/13
...

محمد عبد الجبار الشبوط
 
يبدو من استقراءِ بناء الدول الحديثة، على الاقل بعد معاهدات وستفاليا عام 1648 ان بناة تلك الدول انطلقوا من الايمان بفلسفة للدولة شكلت قاسما مشتركا بينهم. ينطبق هذا على الملكية الدستورية والنظام البرلماني الديمقراطي في بريطانيا، والنظام الجمهوري الديمقراطي في فرنسا، والنظام الديمقراطي الراسمالي ذي الحزبين في الولايات المتحدة وعلى النظام الشيوعي ذي الحزب الواحد في روسيا (قبل سقوط الاتحاد السوفيتي)، وعلى الجمهورية الاسلامية الايرانية ذات ولاية الفقيه، وهكذا ينطبق الامر على قائمة طويلة من الدول.
وكتب بناة تلك الدول او المبشرون بها العديد من الكتب في معالم الدولة التي يسعون الى اقامتها، واليوم بين ايدينا قائمة طويلة من هذه الاسماء تبدأ بميكافيللي ولا تنتهي براولز، وقبلهما كان ارسطو وافلاطون مصادر اولية لفلسفة الدولة والدستور وانواع الحكم.
وحين سقط النظام الدكتاتوري الصدامي في عام 2003، لم يكن الذين تصدوا لبناء الدولة من بعده من خلال كتابة الدستور عام 2005 من الذين تشهد لهم الايام بمساهمات فكرية وسياسية في بناء الدولة. فقد كانوا مناضلين حزبيين ومعارضين سياسيين من الداخل او الخارج ولم يكونوا من المفكرين او المشتغلين في هذا الحقل المعرفي الحساس والمهم. ولم يؤثر فيهم انهم قدموا اطروحات واضحة بشأن فلسفة الدولة ونظامها. نعم يوجد في العراق اكاديميون متخصصون بالقانون الدستوري وهو العلم الاكثر قربا لمسألة بناء الدول، لكن الطبقة السياسية التي تولت الامر والسلطة لم تسمح لهم بالمساهمة الفعالة في بناء الدولة العراقية وكتابة دستورها. ولهذا، ولاسباب اخرى، جاء الدستور العراقي، رغم حسناته، ناقصا، واهم ما ينقصه هو فلسفة الدولة، او الفكرة الحاكمة، كما يقول بعض المشتغلين بالقانون الدستوري. وحينما بدأ التطبيق، اخذت العيوب بالظهور تدريجيا، يرافقه تحلل تدريجي من الالتزامات الدستورية، حتى آل الامر الى ما نحن عليه من حكومة مستقيلة، وعجز عن تكليف شخص ما بتشكيل حكومة جديدة.
وبينما تتعالى المطالبات بالاصلاح السياسي الشامل، قبل التظاهرات الاحتجاجية وبعدها، فانه قلما تذكر الحاجة الى وضع فلسفة للدولة تحقق اجماعا وطنيا عاما وتكون اساسا لاعادة بناء الدولة في العراق. ولهذا الغياب اسباب كثيرة ولا شك من بينها الانشغال بالامور المطلبية والحاجات المعيشية الملحة، وتدني منسوب الوعي السياسي الذي يفتح عقول الناس على مثل هذه المسائل الجوهرية، وتقاعس المثقفين والعارفين عن اشاعة ثقافة سياسية عميقة وحديثة بين الناس.
واليوم، حيث تتعالى دعوات الاصلاح والتغيير، وجدت انه من الضروري تذكير الناس بهذا الامر ليكون لهم دليل ومرشد.
تعرفت البشرية على عدة أطروحات لبناء الدول، منها الأطروحة  الراسمالية، والأطروحة الديمقراطية، والأطروحة الاشتراكية، والأطروحة الاسلامية. ولكل من هذه الأطروحات تجارب ونماذج، فاشلة او ناجحة، ويمكن للمرء ان يستخلص منها افكارا وقيما تساعده على صياغة أطروحة ما تناسب وضعا اجتماعيا معطى. واذْ قمت بمحاولة جادة لتحقيق ذلك، فقد توصلت الى ان أطروحة الدولة الحضارية الحديثة هي افضل ما توصلت اليه البشرية حتى الان. ويوجد في عالم اليوم اكثر من عشرين دولة مما يمكن اعتبارها دولا حضارية حديثة، على ألا يعني ذلك الدعوة الى استتساخ تجاربها ونماذجها بقدر ما يعني استلهامها لبناء اطروحة لبناء الدولة الحضارية الحديثة خاصة بالعراق ومناسبة لظروفه الاجتماعية والسياسية والاقتصادية الخ.
وذلك يتطلب ان يتوجه الاكاديميون والكتاب والمثقفون والمطالبون بالاصلاح الى هذه المسألة ويعطوها القدر اللازم من الاهتمام لتصبح موضوع الساعة ومطلب المواطنين وهدف الحراك الاجتماعي، وهذا يتطلب ان يرتفع المعنيون قليلا عن مستوى الاحداث اليومية الجارية، ويفكروا بشكل اكثر شمولية وأبعد نظرا مستلهمين في ذلك دعوة المرجعية: "فلترتق الأطراف المعنية الى مستوى المسؤولية الوطنية ولا يضيعوا فرصة التوصل الى رؤية جامعة لمستقبل هذا الشعب". 
وهذا موضوع حديث اخر.