الديمقراطية مفهومٌ سيّال تعرض للكثير من التغيرات
والتحولات .
الكتب المدرسية تقول: إن الديمقراطية هي حكم الشعب بالشعب ولأجل الشعب.
وقد تعرض هذا التعريف لكثير من النقد ولم يعد قائما.
وسوف أقوم هنا بطرح تعريف للديمقراطية يقول انها: آلية مؤسساتية محايدة لتداول السلطة سلميا من دون إراقة دماء عن طريق الانتخابات العامة الدورية.
وتعود أصول هذا التعريف الى الكثير من الكتابات على رأسها كتاب شومبيتر بشأن الديمقراطية.
ويمثل هذا التعريف الحد الادنى للديمقراطية، او كما يقول لاري دايموند thin democracy.
وفي ما يلي اتناول مفردات التعريف المقترح مفردةً مفردةً.
الديمقراطية:
شاعت كلمة democracy الانگليزية منذ القرن السادس عشر. وتقول المراجع ان الانگليز اخذوها من الفرنسيين، عن اللغة اللاتينية، عن الاغريقية demokratia المأخوذة من demos اي الناس، و kratia اي الحكم او السلطة، وتتوقف المراجع الى هنا في تعقب اصل الكلمة.
لكن الباحث الاميركي المتعمق جون كين تعقب اصل كلمة demos الى اصولها في اللغات السابقة
على اللغة الاغريقية.
وبين في كتابة الكبير the life and death of democracy ان الجذر اللغوي للكلمة يعود الى السومريين حوالي 2500 ق م.
فقد استعمل السومريون كلمة dumu حيث بدأت المرحلة الاولى للديمقراطية في بلاد وادي الرافدين في تلك الفترة، وهي ديمقراطية المجلس، التي استمرت الى حدود عام 1000 م، لتبدأ مرحلة الديمقراطية التمثيلية، ثم مرحلة الديمقراطية الرقابية بعد الحرب العالمية الثانية.
ويبدو ان الفينيقيين حملوا الكلمة الى جزيرة كريت، حيث الحضارة الميسينية التي حولت الكلمة الى damos ثم تحولت الى demos حوالي عام 1200 ق. م، قبل ان تنتقل من كريت الى اثينا، لتصبح
democratia.
وبسبب نزعة المركزية الثقافية الاوروبية، اشاع الكتاب الاوروبيون ان كلمة ديمقراطية اغريقية معناها حكم الشعب.
وكان افلاطون وارسطو قد استخدما الكلمة في مؤلفاتهما الجمهورية، والسياسة.
و تمت ترجمة الكلمة الى العربية، بعبارة “المدينة الجماعية” كما في كتابات الفارابي وابن رشد، ولو كان المترجمون العرب عرّبوا الكلمة كما نفعل الان مع كلمة تلفون وتلفزيون وغيرهما، لدخلت كلمة الديمقراطية القاموس العربي
منذ ذلك الحين.
والديمقراطية آلية: فهي وسيلة او مجموعة آليات لتنظيم تولي السلطة وتداولها في المجتمع، ولهذا يمكن تطبيقها في مختلف المجتمعات من دون التأثر بالمعتقدات الدينية
للافراد.
وهي ليست عقيدة دينية او سياسية.
وهي آلية محايدة، ويتجلى ذلك مثلا في موقفها من الدين، فهي ليست ضده او معه، اما المخرجات الاخرى فهي ذات علاقة بالانظمة القيمية والاخلاقية والثقافية
والاقتصادية للمجتمع.
وهي آلية مؤسساتية بمعنى انها تعمل من خلال مؤسسات وليس من خلال الشارع، وعلى راس هذه المؤسسات المجالس التمثيلية والاحزاب والمؤسسات
الاعلامية.
ووظيفة الديمقراطية تنظيم تداول السلطة في المجتمع:
أ- السلطة او الحكومة هي العمود الفقري للدولة.
وهي العنصر الثالث بعد الوطن والشعب، يليها السيادة (والنظام القيمي بالنسبة للدولة الحضارية الحديثة).
ولا يمكن تصور مجتمع او دولة من دون سلطة او حكومة.
ب- والعقدة الاساسية في السلطة تكمن في طريقة توليها او تداولها بين الناس، فلئن رضي الناس ان يكونوا قسمين: حاكمين ومحكومين، فان عليهم ان يتفقوا يكون بعضهم حاكمين بينما يكون البعض محكومين.
وقد مرت البشرية بتجارب كثيرة في هذا الامر، وسفكت دماء كثيرة بسببه وفي سبيله.
واليوم تدرك البشرية ان تداول السلطة افضل من احتكارها وتوارثها.
فلا يملك اي انسان حق احتكار السلطة لنفسه او لذريته، ولم يعد لفرضية التفويض الالهي من وجود.
واصبح تداول السلطة بطريقة مؤسساتية وسلمية من معالم الدولة الحضارية الحديثة.
فالديمقراطية آلية لتداول السلطة سلميا:
حيث ادركت قطاعات واسعة من البشرية ان الطريق السلمي لتداول السلطة اسلم واقل كلفة.
وهذا الطريق هو الديمقراطية.
ولهذا نقول الديمقراطية آلية لتداول السلطة سلميا من دون اراقة دماء، فبدلا من الانقلابات العسكرية والحروب الاهلية ومؤامرات القصر الخ، يذهب الناس الى صناديق الاقتراع دوريا لاستبدال الطبقة الحاكمة.
ولهذا تشكل الانتخابات الدورية الآلية الاساسية في الديمقراطية، ويجب ان تكون الديمقراطية عادلة وشفافة
ومنصفة.
وهذا يتطلب وجود قانون للانتخابات يحقق ويضمن هذه المواصفات، وافضل صيغة للانتخابات هي الانتخابات الفردية، ولا يفترض ان تحقق الانتخابات الاجماع في الاختيار؛ فهذا من شبه المستحيلات في المجتمع البشري، لذا اختارت البشرية مبدأ الاكثرية الانتخابية،.
ويكون على الاقلية الاذعان لقرار الاغلبية.
والديمقراطية من ركائز الدولة الحضارية الحديثة.