البنية الإيقاعيَّة «التكرار مثالاً»

ثقافة 2020/09/28
...

كمال عبد الرحمن
 
يمكننا أن نضيف الموسيقى اللغوية الى الايقاع الشعري الحديث، والتي تتأتى من حسن اختيار الألفاظ مع حسن التجاور في التراكيب، ويشكل التكرار في القصيدة نوعا من الموسيقى الداخلية التي تنتجها اللغة في
 أربع طرق هي:
1 - تكرار (الحرف): تكرار الحرف الواحد الذي هو من بنية الكلمة، وهذا النوع من التكرار لا يقتصر دوره على مجرد تحسين الكلام، بل يمكن أن يكون من الوسائل المهمّة التي تترك أثراً عضوياً في أداء المضمون.
وهذا يتشكل في الغالب عن طريق تكرار حروف الجر في القصيدة، أو اية حروف لها القابلية على تشكيل نوع من الموسيقى، ونجد ذلك واضحا في قصيدة (غيمة الأسرار:17).
كَانَتْ نَايَاتِهمْ فِي لَحَظَاتِ الحُزْنِ/ (و) رَبَابَاتِهمْ فِي هَذَيَانِ السَعَادَةِ/ (و) نَخْبَهمْ فِي حَلَقَاتِ السَمَر/ كَانَتْ بَوْصَلاتهمْ لِطَوَالِع النُجوْم/ (و) ذَاكِرَتَهُمْ لِمَا كَانَ ومَا سَيَكُونُ ومَا هُوَ كَائِنٌ/ كَانَتْ المَرَايَا والذَاكِرَةَ والبَوْصَلَة/ قِيلَ إِنَّهَا ابْنَةُ الخَطِيئَةِ الأُولَى. يتكرر حرف العطف الواو في هذه المقاطع (8 مرات)، لينتج موسيقى داخلية، وهو تكرار جعل الجمل تصاغ بالتركيب نفسه، وهو ما شكل موسيقى داخلية لغوية، أليس هذا التكرار نوعا من انواع موسيقى الالفاظ، بتكرار حرف العطف (8 مرات) في مقاطع قصيرة؟
2 - تكرار الكلمة: ويتجلّى هذا التّكرار غالبًا في تكرار الكلمة التّي يستهل فيها الشّاعر نصّه، ويتوزّع بين أجزاء من بنيّة النّصّ، 
 فمثلما تشكل حروف العطف بتكرارها في القصيدة تناغما موسيقيا واضحا، فان تكرار (الكلمة)، يشكل ايضا ظاهرة نغمية موسيقية،عند تكرارها (الكلمة) تكرارا فنيا، ذات دلالات تتوالد بصيغ جديدة، مع كل تكرار لـ (الكلمة) كما في قصيدة (طريق شائكة: 57:)
طَرِيقٌ شَائِكةٌ تِلكَ التِي نَشرْنَا عَلى حِبَالِها مُرْغَمينَ طُفولةَ أَسْرارِنا وأَسْمينَاها تَيمُّناً قَصَائدَ
طَريقٌ مِن فَرْطِ مَا افْتُضَّتْ بُكَاراتُها لمْ تَعدْ بَوصَلَتِي قَادِرةً عَلى لَجْمِ شَبقِها
طَرِيقٌ مازَالَتْ مَسْكُونةً بظِلالِ المَارَّة رَغْمَ مُغَادَرتِهم مَطَارَاتِها مُنْذ غَفْوةٍ بَعِيدَة.
3 - تكرار الجملة: تتجسّد شعريّة تكرار الجملة من خلال تكرار شطر شعريّ، أو جملة شعريّة تشكّل بمستوَييها الإيقاعي والدّلاليّ محورًا أساسيًّا من محاور النّصّ الشّعريّ (9)، ويُبرز تكرار الجملة تلاحم النّصّ، ويشدّ أطرافه بعضها إلى بعض، ويُعطي شكله نوعًا من الحركة يدور فيها الكلام على نفسه، ويتكرّر بغيّة أن يؤدّي المقصود منه، وهو شدّ الانتباه (10)، وتكمن شعريّة هذا التّكرار في التّعبير عن انفعالات الشّاعر وإخبار المتلقّي بها، وفي ترابط، ونعثر في شعر 
شفيق العبادي على عدد من الجمل المكررة منها كما في قصيدة (أفتش عن قمر:73:)
أُفتَّشُ عَنْ قَمرٍ فَرَّ مِنَّي/ أُفتِّش عنْ قمر في سَماءِ القَصِيدَة لمَّا اسْتتَمَّ بِه الوَزنُ/ أفتش عن قمر خُنْتُ فِيه الحُروفَ التي لمْ تَخُنِّي
هذه اللازمة النفسية المتشكلة من تعالق الجملتين، تمثل القصيدة فنيا وموسيقيا ودلاليا بشكل كامل ومطلق.
4 - تكرار العبارة او البيت الشعري: تتجلّى في تكرارعبارة او بيت من الشّعر في موطن أو أكثر من النّصّ نفسه .
 كما في قصيدة (قهوة العشق:75: صُبَّها قَهْوةَ العُشْق/ صُبَّها قَهْوَةَ العُشْقِ وجْهاً بَهِيَّ السِمَاتْ/ صُبهَا قَهوةَ العُشقِ مَرْثِيَّةً لِحُروفِ الجِهَاتْ
إن التكرار بأنواعه يمثل معجما شعريا، يأتي في الغالب من لاوعي الشاعر ويسقط تلقائيا على وعيه، كما انه يمثل إشباع حاجة نفسانية لدى الشاعر، ونجد لدى الشاعر شفيق العبادي أمثلة كثيرة على شيوع التكرار في قصائده، وينبغي ان لا نغفل عن الفرق بين (تكرار الوعي: وهو ما يسمى بالتكرار الفني. 
إذ يقوم الشاعر بتكرار حروف او كلمات او جمل بعينها بإصرار منه على تكرارها لغرض فني معين)، وبين (تكرار اللاوعي: وهو إسقاط نفسي غير واعٍ على القصيدة. كما في حال الغضب، إذ نردد مفردات بلا وعينا ونفاجأ أننا قلناها وننكرها أحيانا). (13)
في شعر شفيق العبادي نجد أمثلة على احتواء قصيدة واحدة على انواع مختلفة من التكرار، ومن ذلك في قصيدة (غيمة الاسرار: 17): كَانَتْ نَايَاتِهمْ فِي لَحَظَاتِ الحُزْنِ/ كَانَتْ بَوْصَلاتهمْ لِطَوَالِع النُجوْم/ كَانَتْ المَرَايَا والذَاكِرَةَ والبَوْصَلَة
نلاحظ هنا تكرار مفردة (كانت) تكررت ثلاث مرات، بثلاثة معطيات مختلفة:
** كَانَتْ نَايَاتِهمْ/ ** كَانَتْ بَوْصَلاتهمْ/** كَانَتْ المَرَايَا
فالشاعر العبادي يضغط هنا بفعل (الكينونة) لتحقيق مجموعة افعال وحوداث وقعت في الماضي.
لا شك أن من الأمور الخفية والتي نادرا ما يلتفت اليها النقد هو (التكرار) الذي يمثل عنصرا مهما من عناصر تكوين القصيدة، فهو حاسة شعرية خاصة تنبني بين الناص ونصه، وهو معجم شعري يدل على صوت الشاعر ويميزه من بين أصوات الشعراء الآخرين.
 لقد نجح الشاعر شفيق العبادي في صناعة نصوص شعرية تعتمد التكرار فنا باذخا الى جانب عناصر تشكيل القصيدة الأخرى، فقد تميز استخدام مفردات بعينها تكرارا في نوعيه (الواعي واللاواعي) ونجح في ذلك وأبدع. 
 
 ** شفيق العبادي، شيء يشبه الرقص – شعر، الطبعة الأولى 2019، دار عرب للنشر والترجمة